من قال إن التكليف الحكومي قائم، لكن عملية تأليف مجلس الوزراء طويلة أو بعيدة المنال؟ هناك من ربط بين ولادة الحكومة ال​لبنان​ية العتيدة وبين الإنتخابات الأميركية. ولنفترض أن هناك روابط غير مباشرة، فهل يعني ذلك أن التأليف الحكومي مرهون بترجمة الإدارة الأميركية الآتية عناوين سياساتها الشرق أوسطية؟ عندها سيكون موعد الولادة الحكومية اللبنانية بعد ستة أشهر على الأقل. هي مساحة زمنية كافية لإختناق كل اللبنانيين في أزمات لا قيامة بعدها. لذا، يمكن الجزم هنا أن كلّ ما يُقال عن إرجاء الخطوات المتعلقة بالحكومة اللبنانية العتيدة لتلك المرحلة هو مجرد إفتراض يناقض عملياً المعطيات الجارية.

يتحدّث مطّلعون عن إندفاعة أميركية-فرنسية لتسريع ولادة حكومة لبنانية من دون تأخير: اليوم قبل الغد. لم يعد الأمر خافياً بعد تصريحات الخارجية الفرنسية بشأن التداعيات السلبية لتأخير ولادة الحكومة اللبنانية وإستخدام مصطلح "غرق المركب". لم تترك فرنسا مناسبة الاّ وعبّرت فيها عن رغبتها بوجوب تأليف حكومة في لبنان تنفّذ الإصلاحات المرتقبة، وترعى عملية الإستحصال على أموال من صندوق النقد الدولي أو عبر ​مؤتمر سيدر​. لا يتعلق الأمر فقط برمزية إنجاح المبادرة التي طرحها رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون، بقدر ما هي رغبة باريس في عدم سقوط لبنان، وبالتالي حصول فوضى حينها لا تخدم احداً لا في الإقليم ولا في العالم، لا بل هي تجرّ تدخلاً تركياً على حساب الدور الفرنسي في لبنان.

يُعزز هذه الفرضية وجود ثروات غاز في المياه الإقليمية اللبنانية في حوض شرق البحر الأبيض المتوسط. ومن هنا ايضاً يدعم الأميركيون مشروع فرض الاستقرار السياسي اللبناني عبر حكومة ترعى عملية ترسيم الحدود الجنوبية التي يشرف عليها الأميركيون بكل تفاصيلها بعد توقيع إتفاق الإطار مع لبنان.

كل المؤشرات تؤكد ألاّ تراجع عن دعم لبنان. وهو ما عبّر عنه الموفد الأميركي ديفيد شينكر في كل اجتماعاته اللبنانية. ومن هذا المنطلق يمكن الجزم أن ترشيح سعد الحريري لنفسه لتولي مهمة تأليف الحكومة في الظروف الحالية نابع من أجواء أميركية-أوروبية مؤيدة لا بل دافعة للخطوة إلى الأمام. عندما طرح الأميركيون الفكرة على حلفائهم اللبنانيين تراجع رئيس حزب "القوات" سمير جعجع عن وضع مطبّات في طريق "الشيخ سعد" ومعارضته بشكل حاد، وإكتفى بعدم تسميته لرئاسة الحكومة لإعتبارات محدّدة لم يستطع "الحكيم" القفز فوقها. وبحسب المعلومات فإن شينكر تفهّم موقف جعجع من دون ممارسة أيّ ضغوط عليه لتسمية "الشيخ سعد".

اما حسابات رئيس التيار "الوطني الحر" النائب ​جبران باسيل​ فكانت مغايرة: لو كان شينكر زار ميرنا الشالوحي وأبلغ رئيس "الوطني الحر" بما أبلغ جعجع من "تمنيات" وإشارات أميركية، هل كان بقي موقف باسيل من الحريري هو ذاته رافضاً تكليفه؟ ربما نعم، ويجوز لا. لكن مقاطعة واشنطن لباسيل هي رسالة واضحة في عز الإندفاعة الأميركية نحو إعادة تعزيز مكانة الحريري حكومياً.

يقول سياسي محنّك: ان إندفاعة الحريري نحو بيت الوسط، غير مكترث هذه المرة بكل المقاطعين والمشاكسين والمعارضين له، تؤكد وجود رعاية له ودعما كبيرا لخطوته لا يقتصران على باريس فحسب. ابحثوا عن دور أميركي تجدونه في شكل ومضمون زيارة شينكر منذ أيام.

لم يعد السؤال: هل يستطيع الحريري تأليف الحكومة أم لا؟ بل صار: ما هي تداعيات تعطيل تأليف حكومة الحريري؟ ينطلق الجواب من معادلة أن من دفع الحريري نحو ترشيح نفسه، وأمّن له التغطية الدولية، يستطيع أن يضغط لتأليف حكومة من دون تأخير.

وعليه، سيكون لبنان امام سيناريوهات عدّة:

اما ان يؤلّف الحريري حكومته سريعاً بتوازن مطلوب. عندها تتحقق مصلحة البلد بمشاركة كل المكونات.

اما ان يرفض رئيس الجمهورية تشكيلة الحريري لأسباب عدة جوهرها عدم رضى باسيل عنها، ويحاول بعدها المتضررون وعواصم خارجية رمي مسؤولية الأزمات على رئاسة الجمهورية.

اما ان يماطل الحريري في عملية التأليف من دون اي رادع دستوري، بإنتظار تسوية داخلية تعيد أكثرية القوى الى الطاولة الواحدة. وهنا يدخل لبنان في جدل سياسي ومراوحة سلبية.

لا يوجد مستحيل في لبنان. ينام المواطن اللبناني على حدث ويستيقظ على خبر. بمعنى أن العلاقة قد تعود بين الحريري وكل من باسيل وجعجع. في السياسة لا يوجد موانع. ومن يعتقد أن معارك داحس والغبراء واردة في السياسة اللبنانية فهو واهم: ألم يكن الحريري حليف باسيل وصنعا معاً تسوية رئاسية؟ ألم يوقّع "الوطني الحر" إتفاق معراب مع "القوات"، وحصل التراجع عنه؟ ألم يتقرب باسيل من رئيس الحزب "التقدمي الإشتراكي" وليد جنبلاط ونجله النائب تيمور ثم تراجع؟ ألم يتودد باسيل من رئيس المجلس النيابي نبيه بري بعد جفاء، ليحصل بعدها مد وجزر في العلاقة؟ وهكذا دواليك. لا يوجد موانع من عودة الحرارة بين بيت الوسط-ميرنا الشالوحي مروراً بالأشرفية حيث يتواجد الوسيط علاء الخواجة.

وإذا تم استحضار المؤشرات الخارجية، جميعها توحي بأن الإقليم يتغير. ماذا لو فاز المرشح الأميركي جو بايدن؟ وقتها سيكون فوزه عامل قلق للسعوديين الذين يسعون لعدم قطع حبل العلاقة مع فرنسا التي يهمها الآن نجاح مبادرتها في لبنان.

وإذا إستكملت ​طهران​ خطواتها المتبادلة مع واشنطن، مهما كانت نتيجة الانتخابات الأميركية، الاّ تطل تداعياتها على لبنان وسوريا والعراق؟ بدأت المؤشرات تتراكم منذ ما قبل الإنتخابات الأميركية في كل ساحات الإقليم.