"لو كنتُ مكان ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ لتنحّيْت"، عبارةٌ تردّدت على بعض الألسن خلال الأيام القليلة الماضية، وبدت بمثابة "الموضة الرائجة" لهذا الموسم، في سياق "الضغوط" المتسلسلة والمتواصلة على "العهد"، من جانب خصومه المتنوّعين.

قد يكون رئيس تيار "المردة" ​سليمان فرنجية​ هو من افتتح "البازار" بإطلالته الإعلاميّة الأخيرة، حين سُئل عمّا كان ليفعله لو كان مكان عون، فكانت إجابته العفويّة والتلقائيّة، أنّه كان ليتنحّى، كنتيجةٍ لكمّ "الكوارث" التي أحاطت بـ"العهد" بكلّ تفاصيله وحيثيّاته.

سرعان ما توسّع "البيكار"، ووصل إلى رئيس حزب "القوات ال​لبنان​ية" ​سمير جعجع​، الذي وُضِع في السياق نفسه، فاختار "استنساخ" إجابة فرنجية "المبدئيّة"، على رغم أنّ "الحكيم" كان من "المتباهين" بكونه من أسهم في إيصال عون إلى ​قصر بعبدا​ بالدرجة الأولى.

لكن، بعيداً عن "المبدئية" التي حاول جعجع "تبنّيها"، وهو الذي يعتبر نفسه في "منافسة" مع فرنجية على "خلافة" عون، هل يريد فعلاً أن "يتنحّى" الأخير في الظرف الحاليّ؟ وهل يمكن أن يحوّل الأمر إلى "معركةٍ" سياسيّة حامية الوطيس، كما يريد البعض؟!.

لا مصلحة!

في المبدأ، يستبعد كلّ العارفين والمتابعين أن يكون رئيس حزب "القوات" في صدد خوض "معركة حقيقيّة" لدفع ​الرئيس عون​ إلى الاستقالة من منصبه، ولو أوحى بتصريحه الأخير أنّه يؤيّد، وربما يحبّذ، تنحّي الأخير، وانسحابه بهدوء وسلاسة من المشهد.

مثل هذا الاستبعاد ليس مردّه، كما يقول أصحاب هذا الرأي، "تناغم" جعجع مع رغبة ​البطريركية المارونية​ بـ "تحصين" موقع الرئاسة، وهي التي وقفت تاريخيّاً ضدّ أيّ ضغطٍ مماثلٍ على رئيس الجمهورية، وهو ما تكرّس مثلاً في أداء البطريرك الراحل ​نصر الله​ صفير الذي "تصدّى" في العام 2005 للمطالبات بإسقاط الرئيس ​إميل لحود​، رغم الخلاف السياسيّ الواسع معه، علماً أنّ هذا الأمر دفع آخرين، كرئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" ​وليد جنبلاط​، إلى التراجع عن الطرح، ريثما تنضج المقوّمات "الطائفية" المناسبة.

ولا يعود هذا الاستبعاد أيضاً لرغبةٍ "شخصيّة" لدى جعجع، بالحفاظ على "شعرة معاوية" مع عون، بعدما ساهم في إيصاله إلى ​رئاسة الجمهورية​ من خلال "تفاهم ​معراب​" الشهير، ويصرّ على ترسيخ ما يقول إنّها "مكاسب استراتيجية" حقّقها الأخير، وأنهت ذيول "الحرب الدموية" بين المسيحيّين في لبنان، وإن "تبدّدت" عملياً في "أوحال" ​السياسة​ ودهاليزها، خصوصاً بعدما دخل رئيس "​التيار الوطني الحر​" الوزير السابق ​جبران باسيل​ على الخط.

بكلّ بساطة، يقول العارفون إنّ الأمر مرتبطٌ أولاً وأخيراً، بـ "انعدام" المصلحة السياسية "الآنيّة" لـ"القوات اللبنانية" ولجعجع تحديداً من هذه الاستقالة، في الظرف الحاليّ، باعتبار أنّ "الحكيم"، الذي يحسب مواقفه "على الورقة والقلم" كما يُقال، يدرك سلفاً أنّ "تنحّي" عون اليوم لن يعزّز حظوظه "الرئاسية"، ولن يؤدي إلى أيّ تغيير، بل يمكن أن يدفع باتجاه انتخاب رئيسٍ آخر من الخط السياسيّ نفسه، طالما أنّ المهمة ستكون على عاتق البرلمان الحاليّ، الذي يمسك "​حزب الله​" بزمام الأمور فيه.

مجرّد كلام!

إضافةً إلى ما سبق، ثمّة من يعتبر، في الدائرة المقرّبة من جعجع، بأنّ "تنحّي" عون عن الرئاسة اليوم من شأنه أن "يقلب" أوراق اللعبة بما لا يخدم "الأجندة" الموضوعة من قبل "الحكيم"، والذي يصرّ في الليل و​النهار​ على الدعوة إلى انتخاباتٍ نيابيّةٍ مبكرة، تعيد إنتاج الطبقة السياسية برمّتها، للتصدّي للمتغيّرات الهائلة التي طرأت على المشهد منذ عام وحتى اليوم، بدءاً من انتفاضة السابع عشر من تشرين وصولاً إلى ​انفجار​ الرابع من آب، مروراً ب​الأزمة​ الاقتصادية والمالية المتفاقمة.

من هنا، يصرّ هؤلاء على وضع كلام جعجع حول "تنحّي عون" في سياقه "الإعلاميّ"، بعيداً عن أيّ تفسيرات أو استنتاجات أو تأويلات لا تحمل بين طيّاتها الكثير من "المبالغة" فحسب، ولكن أيضاً "عدم الواقعيّة" بأيّ شكلٍ من الأشكال، علماً أنّ من "يضغط" باتجاه إسقاط البرلمان الحاليّ بأيّ وسيلةٍ مُتاحة، لانتخاب برلمانٍ جديد، لا يمكن أن يدفع أبداً باتجاه تعزيز دوره، ومنحه "شرف" انتخاب رئيسٍ جديد، فيما يشكو من فقدانه "الأهليّة" المطلوبة لتمثيل الشعب، و"انقلابه" على "الوكالة" الممنوحة له.

أكثر من ذلك، يشير العارفون إلى أنّ الكلام الذي أدلى به جعجع في هذا السياق، "بلا قيمة سياسيّة"، أقلّه من حيث الترجمة الميدانية، فهو لم يقل إنّ "على الرئيس التنحّي"، كما لم يدعُ الرئيس صراحةً إلى الاستقالة، وإنما سجّل موقفاً أخلاقيّاً ومبدئيّاً بالقول إنّه "لو كان مكانه لتنحّى"، علماً أنّه لو لم يُسأَل عن موقف فرنجية بهذا الخصوص، لما أدلى بدلوه من الأساس في هذا المضمار، في وقتٍ لا يستبعد كثيرون أن تكون "حماوة" المنافسة المرتقبة بين جعجع وفرنجية هي التي حتّمت عليه اتخاذ مثل هذا الموقف، حتى لا يُسجَّل عليه "في ساعة الجِدّ"، عندما تقترب ​الانتخابات الرئاسية​ الموعودة.

المصلحة أولاً!

هي المصلحة السياسية تعلو ولا يُعلى عليها إذاً. فمن مصلحة جعجع أن يقول إنّه لو كان مكان عون لتنحّي، لـ "الإفادة" التي يمكن أن يدرّها عليه مثل هذا التصريح، وما ينطوي عليه من "مبادئ ومثاليّات" مطلوبة، أقلّه من الناحية "الشعبوية"، وفي إطار "المنافسة" المحتملة مع فرنجية وغيره على الرئاسة.

لكن من مصلحة جعجع أيضاً "حصر" هذا المطلب في إطار "الضغط السياسي" بحدوده الدنيا، وعدم تحويله إلى "معركة" جدية وحامية، لأنّ"تنحّي" عون اليوم لن يحقّق له أهدافه السياسية المنشودة، بل قد "يعقّد" المهمّة عليه أكثر، باتجاه فرض انتخاباتٍ رئاسيّة "معلّبة" من إنتاج البرلمان الحاليّ، بما لا يرضي "الحكيم".

هي المصلحة نفسها التي "يتناغم" على أساسها اليوم جعجع وفرنجية، في مواجهة الوزير السابق جبران باسيل، قبل أن "يختلفا" متى دنت "ساعة الجِدّ"، و"المصلحة" التي تدفع البعض إلى "رهن" ​تأليف الحكومة​ حتى ​تحقيق​ مكاسبهم الشخصيّة المُبالَغ بها، "مصلحة" يبدو كالعادة الشعب الغائب الأكبر عنها، بعدما تحوّلت "مصائبه" إلى "مواد ابتزاز" يعتاش من ورائها بعض الحاكمين بأمرهم!.