أظهرت العراقيل التي واجهت عمليّة تشكيل الحُكومة حتى تاريخه، وُجود العديد من المشاكل التي تتجاوز الصراع السياسي والحزبي، وتبلغ مرحلة الخلاف على الصلاحيّات وعلى بعض المواد الدُستوريّة وعلى حُقوق ​الطوائف​ والمذاهب، في ظلّ إنعدام الثقة بين مُكوّنات ​لبنان​يّة أساسيّة، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى الحديث عن أنّ الحلّ في لبنان يجب أن يمرّ ب​مؤتمر​ تأسيسي. وهناك من يقول إنّ الإنتخابات النيابيّة المُقبلة قد لا تحصل في موعدها بسبب الخلافات على القانون الحالي، وأنّ الإنتخابات الرئاسيّة مُهدّدة بدورها بسبب خلافات تتجاوز موازين القوى والتنافس الشخصي، وتصل إلى حُدود الدور المَطلوب من حاكم القصر الجُمهوري، إلخ. وكل ذلك سيقود حُكمًا إلى المُؤتمر التأسيسي، لأنّ لبنان غارق في سلسلة من المشاكل العميقة التي لا تنتهي منذ العام 2005، أي منذ خروج جيش الإحتلال السُوري، وبالتالي منذ غياب السَطوة الخارجيّة التي كانت تفرض على لبنان هويّة رئيسه وأسماء كل مسؤوليه... فهل نحن مُقدمون فعلاً على مؤتمر تأسيسي، وهل سيأتي بالحلّ فعلاً؟.

بداية، لا بُدّ من التذكير ٍأنّ الدُستور المُعتمد حاليًا في لبنان، يعود بخُطوطه ​العريضة​ إلى عهد ​الإستقلال​، مع كل التغييرات السياسيّة والديمغرافية التي طرأت على مدى نحو ثمانية عُقود، وخُصوصًا مع التعديلات التي أدخلت على الدُستور في "​إتفاق الطائف​" في العام 1990، والذي جاء نتيجة تسوية إقليميّة-دوليّة على حساب حريّة اللبنانيّين، وفي ظلّ مَوازين قوى محليّة وإقليميّة كان المسيحيّون الحلقة الأضعف فيها، ما أسفر عن إنتزاع العديد من السُلطات والصلاحيّات منهم آنذاك. والمُفارقة أنّ باقي الطوائف والمذاهب لم تكن كلّها راضية عن التسوية التي حصلت في الطائف، فبقيت الخلافات مَفتوحة حتى يومنا هذا، مَعطوفة على مزيد من التغييرات الديمغرافيّة، وعلى مُستوى مَوازين القوى أيضًا.

إشارة إلى أنّ الدعوات غير المُباشرة إلى "المُؤتمر التأسيسي" غالبًا ما تصدر عن جهات تنتمي إلى "​الثنائي الشيعي​" أو مَحسوبة عليه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى طرح "المُثالثة" المُبطّن والمُغلّف بشعارات رنّانة. وليس بسرّ أنّ كتابة الدساتير تتمّ عادة وفق مَوازين قوى قائمة في مكان وزمان مُعيّنين، وفي لبنان، لا يختلف إثنان أنّ "حزب الله"-ومعه ضُمنًا حركة "أمل"، يُعتبر الأقوى محلّيًا، بسبب قُدراته العسكريّة والأمنيّة والماليّة، وإمتداده الجماهيري الكبير، علمًا أنّه يتلقّى دعمًا لوجستيًا خارجيًا كبيرًا يُمكّنه من تعزيز نُفوذه أكثر فأكثر، من دون أن ننسى ​البيئة​ الواسعة الحاضنة له شعبيًا، خاصة ضُمن ال​طائفة​ الشيعيّة. والكثير من المُحلّلين يعتبر أنّ زمن ما يُسمّى "المارونيّة السياسيّة" سقط بالقُوّة في نهاية الحرب اللبنانيّة في العام 1990، لندخل بعد ذلك بزمن "إتفاق الطائف" الذي تحوّل مع رئيس الحُكومة الراحل ​رفيق الحريري​ ِإعتبارًا من العام 1992 إلى زمن "السنيّة السياسيّة". لكن منذ أنّ قام "الثنائي الشيعي" في السنوات القليلة الماضية، بمنع أيّ إنتخاب لأي رئيس الجُمهوريّة لا يكون راضيًا عنه، وبمنع إجراء أي إنتخابات نيابيّة لا يكون مُوافقًا على قانونها، وبمنع تشكيل أي حُكومة لا يكون مُوافقًا على رئيسها وعلى تركيبتها، دخلنا عمليًا في زمن "الشيعيّة السياسيّة".

وفي حال الذهاب اليوم، أو في المُستقبل القريب، إلى مُؤتمر تأسيسي، ستكون الطائفة السُنّية في موقع دفاعي عن مصالحها وعن السُلطات التي كسبتها في "إتفاق الطائف"، بينما ستسعى كلّ من الطائفتين الشيعيّة والدُرزيّة إلى مُحاولة تعزيز نُفوذها، وإلى كسب ما يُمكنها من سُلطات، في حين ستسعى الطائفة المسيحيّة بكامل مُكوّناتها المذهبيّة إلى إستعادة سُلطات ومواقع سُحبت منها.

بالنسبة إلى الطائفة الشيعيّة التي ثبت بالمُمارسة، أنّ إمساكها بموقع ​رئاسة​ مجلس النوّاب يتجاوز مسألة التشريع، حيث جرى إقفال أبواب المجلس لأشهر طويلة، عندما كان "الثنائي الشيعي" غير راض على الأغلبيّة النيابيّة، فهي الأكثر قُدرة حاليًا على فرض ما تريده من مواقع وصلاحيّات، وعلى وضع "فيتو" على ما لا تريده. ولا شكّ أنّ من بين أهداف "الثنائي الشيعي" تثبيت الحقّ بتحديد هويّة رئيس ​مجلس النواب​، وتثبيت الحق بالتوقيع الشيعي على المراسيم الرئيسة، والإستحواذ على مزيد من المناصب الحسّاسة، على غرار منصب مدير عام ​الأمن العام​ الذي كان بيد المسيحيّين في ما مضى، إلخ. أمّا الطائفة الدُرزيّة فأقصى طُموحها الحُصول على رئاسة مجلس الشيوخ، وهو منصب فخري أكثر منه تنفيذي–حتى في حال إقراره، علمًا أنّ عديد الطائفة بات مَحدودًا نسبة إلى باقي المذاهب، ويقلّ عن عديد المذاهب المسيحيّة الصُغرى، مثل الأرثوذكس والكاثوليك. وفي ما خصّ الطائفة المسيحيّة فإنّ إستعادتها لأي صلاحيّة فقدتها، خاصة على مُستوى موقع الرئاسة، سيضعها مُباشرة في مُواجهة الطائفةالسنيّة التي ترفض كليًا الإستغناء عن السُلطات المَمنوحة لها، إن على مُستوى رئاسة السُلطة التنفيذيّة أو مسألة تشكيل الحُكومة، إلخ.مع التذكير أنّ من ساهم بإنتزاع الصلاحيّات من المسيحيّين في نهاية الحرب، كانت القوى الإسلاميّة مُجتمعة وليس طائفة أو مذهب مُحدّد. وليس بسرّ أيضًا أنّ لا ​الشيعة​ ولا السُنة ولا الدُروز راضون على ما آلت إليه الأمور على مُستوى ​قانون الإنتخابات​ النيابيّة، وهم يُطالبون بتغييره وبإستبداله بقوانين أخرى تُعطي اليد الطولى للأغلبيّة العدديّة بالنسبة إلى الشيعة و​السنة​، وتُعطي الأغلبيّة العدديّة المناطقيّة بالنسبة إلى الدُروز، علمًا أنّ القانون الحالي حسّن قيمة صوت الناخب المسيحي، لكنّه لم يؤمّن إسترجاعها في العديد من المناطق التي لا يزال فيها الصوت المسيحي مُلحقًا وثانويًا.

ومن المَحسوم أنّه طالما أنّ التفكير في لبنان مُقوقع ضُمن البُعدين الطائفي والمذهبي، إلى أقصى درجات التعصّب والإنغلاق، ناهيك عن الخلافات العقائديّة العميقة والتموضعات السياسيّة المُتضاربة، فإنّ أي تطوير للنظام غير مُمكن. وبالتالي إنّ أيّ مؤتمر تأسيسي في ظلّ هذه الأجواء، لن يُسفر عن بناء أي وطن علماني أو حيادي أو ديمقراطي أو متطوّر–كما يدّعي البعض، بلسيزيد من حدّة الإنقسامات ومن حدّة الصراعات. وقد يكون المخرج الوحيد لهذه المُعضلة، هو بوقف التكاذب المُتبادل على مُستوى المسؤولين، وبالبحث جديًا عن صيغة حُكم لا تكون على حساب ليس أي طائفة أو أي مذهب فحسب، بل ليس على حساب أي مواطن لبناني، وحقّه بحريّة التفكير وكذلك بالعيش الكريم من دون الخوف من الآخر! وبالتالي يجب تحديد جدول الأعمال الواضح وغير المُخادع، قبل تحديد موعد المُؤتمر التأسيسي!.