سنةٌ جديدة دخلت حياتَنا. رقَصنا لها وطبَّلنا وهلَّلنا، إذ بتمنيّاتِنا أن تحمِلَ لنا شَيئًا جديدًا. جميلٌ الأملُ والرّجاء، وهذا ما أوصانا الربُّ به ألّا نيأسَ أبدًا. ولكنَّ الجديدَ الجديدَ أتى منذُ زمنٍ بعيد. أتى إلينا إلهُنا ليجعلَنا خليقةً جديدةً فيه، وخارجه ليس للأيّامِ أيُّ معنًى، بل تُصبحُ مجرَّدَ أرقامٍ لا قيمةَ إضافيَّةَ لها حتّى لو امتلَكنا ثرواتِ ​العالم​ِ كلِّه.

هذا لا يعني إطلاقًا ألّا نسعى للنَّجاحِ، بل أن ندركَ أنّنا لسنا فقط أرضيّين، وأنَّ نجاحاتنا لا تقتصرُ فقط على حدودِ المسكونَةِ التُّرابيّة. نحن أبناءُ السَّماءِ ولا نستعيدُ هُويَّتَنا هذه إلّا بهذهِ المُواطَنة العُلوِيّة.

طبعًا، التَّهليلُ تَعبيرٌ إنسانيٌّ عن فرحٍ وغبطةٍ وسرور. وهُناكَ فرقٌ شاسعٌ بين أنواع التَّهليل. قبل رأس السّنة بستّة أيّام استعَدنا تهليلَ الملائكةِ بِظُهورِ اللهِ إنسانًا على الأرض، فرنّمنا "المجدُ لله في العلى وعلى الأرض السّلامُ وفي النّاسِ المَسرّة".

كذلك المَجوسُ هلَّلُوا وسجَدوا للطِّفلِ الإلهيِّ، وقَدَّمُوا له ​الهدايا​، واللّيتورجيةُ الكَنَسيَّةُ ذَكرتْ فرحَهُم الكَبيرَ بِطُروباريَّة –ترنيمة– العيد:"ميلادُكَ أيُّها المسيحُ إلهُنا، قد أَطلَعَ نُورَ المَعرفَةِ في العالم، لأنَّ السَّاجِدينَ للكَواكب، بِهِ تعلَّمُوا مِنَ الكَوكبِ السُّجودَ لك يا شَمسَ العَدل، وأن يعرفوا أنَّكَ مِن مَشارِقِ العُلُوِّ أَتَيت، يا ربُّ المَجدُ لك".

فرحُنا هذا يغلِبُ كُلَّ شِدَّةٍ نَعيشُها، فنرى مَثلًا في العَهدِ القَديمِ داودَ المَلكَ هَلّلَ ورَقَصَ أمامَ تابوتِ العَهدِ، عندما أُدخِلَ هذا التَّابوتُ، الّذي هو تابُوتُ الرَّبِّ، مَدينَتَه أورَشليم: "كَانَ دَاوُدُ يَرْقُصُ بِكُلِّ قُوَّتِهِ أَمَامَ الرَّبِّ"(٢ صموئيل ١٤:٦).

لقد عبّرَ داودُ عن فَرَحِهِ بِالرَّقصِ بِكُلِّ قُوَّتِه، كأنَّنا بِذلكَ نَقرأُ وَصِيَّةَ الرَّبِّ الأُولى في سِفرِ تَثنيةِ الاشتِراع، عندما خاطَبَ اللهُ شعبَ إسرائيلَ قائلًا:"اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ"(الإصحاح السادس).

ويُكمِلُ الرَّبُّ وَصِيَّتَه: "وَلْتَكُنْ هذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أَنَا أُوصِيكَ بِهَا الْيَوْمَ َعَلَى قَلْبِكَ، وَقُصَّهَا عَلَى أَوْلاَدِكَ، وَتَكَلَّمْ بِهَا حِينَ تَجْلِسُ فِي بَيْتِكَ، وَحِينَ تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ، وَحِينَ تَنَامُ وَحِينَ تَقُومُ، وَارْبُطْهَا عَلاَمَةً عَلَى يَدِكَ، وَلْتَكُنْ عَصَائِبَ بَيْنَ عَيْنَيْكَ، وَاكْتُبْهَا عَلَى قَوَائِمِ أَبْوَابِ بَيْتِكَ وَعَلَى أَبْوَابِكَ".

هذا ما يُريدُنا الرَّبُّ أن نَنمُوَ عَليهِ وينمُوَ فينا ويَكبُر. كلمَتُهُ هُو. في العهدِ القَديمِ قام اللهُ بِظُهوراتٍ هنا وهُناك، ولكن في العهدِ الجَديدِ أتى بِنفسِهِ لِيَكونَ هُوَ في قَلبِنا ونَفسِنا، ويكونَ قوَّتَنا، ونَقُصَّ لأولادِنا سيرَتَهُ وخَلاصَهُ لَنا، ونَتكلَّم على هَذا الخَلاصِ الإلهيِّ، ليس فقط عندما نَجلِسُ في بُيوتِنا، بل أينَما حَلَلْنا وأينَمَا جَلَسْنا، وحينَ نمشي في الطُّرُقاتِ، وحِينَ نَنامُ وحينَ نَقوم، ويكونُ عَملُ يَدَيهِ على أيدِينا، ولا نَنظُرُ إلّا مِن خلال إنجيلِهِ، فيكونُ هو نورَ أعيُنِنا، ولا نكتبُ آياتِه على قَوائِمِ بيوتِنا فحسب، بل في عُمقِ قُلوبِنا، عندها فقط نكونُ عَائشينَ لـ"الكلمةِ الإلهيّ" وناقِلينَ "إيّاه" إلى بُيوتِنا وعائلاتِنا وأقارِبنا وأصحابِنا وكلِّ مَن نلتقِي به، لأنَّ تهليلَنا هو "الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا"(يوحنا ١٤:١).

قديمًا، طَلَبَ اللهُ مِن كُلِّ فَردٍ مِن شَعبِ إسرائيلَ، أن يَربُطَ علامةً على يدِهِ كي لا ينسى وصايَاه، وهُناكَ عادةٌ أن يَربِطَ المَرءُ شيئًا على يَدِهِ كي يتذَكَّرَ أمرًا ما ولا ينساه. تُرى ما هِيَ العَلامةُ الّتي يَجِبُ أن نَربُطَها اليومَ كي لا نَنسى كلامَ الله،وأين يجبُ ربطُها؟.

قد تكونُ البِدايَةُ مَعَ المَزمورِ القائِل: "اجْعَلْ يَا رَبُّ حَارِسًا لِفَمِي. احْفَظْ بَابَ شَفَتَيّ"(مز٣:١٤١). إنّهُ الصَّمتُ عنِ الخَطيئةِ ليَتَحوَّلَ صمتًا إلهيًّا بِحيثُ تَعيشُ النَّفسُ في سَكينةِ المَحبَّةِ وسَلامِ التَّوبَةِ، ويشتَعلُ القلبُ بِدفءِ الصَّلاةِ القَلبِيَّةِ، ونَمُدُّ جسورَ التَّلاقي الإلهيّ فيما بيننا.

يَعتبرُ الفيلسوفُ "فريدريك نيتشه" في كتابه (Aurore 1881) أنَّ العلاقةَ بينَ البَشرِ هي حُقوقٌ وواجِباتٌ، فقال:“Nos devoirs - ce sont les droits que les autres ont sur nous.”بمعنى أنَّ واجِباتِنا هي حقوقُ غيرِنا عَلينا. وبِالتّالي هُوَ ليسَ واجبًا يَنبُعُ مِن داخلِ الإنسانِ نفسِه. إنّها علاقةُ اقتراضٍ وإعادَةِ القَرضِ لِمَن أقرَضَنا. وقد ينطَبِقَ هذا الأمرُ على أفرادِ الأُسرةِ الوَاحِدَةِ وعلاقَةِ الوَالِدِينَ بِأولادِهم والعَكس، "ربَّونا، علَّمونا، دَعمَونا، أَعطَونا..."، هذا دَينٌ وعَلينا واجِبٌ أن نَرُدَّه "La Redevabilité". وتشمَلُ هذه المُعادلةُ أيضًا البَشريَّةَ جَمعاء. باعتقادِ"نيتشه"، إنَّ هذهِ العمليَّةُ تُحرِّرُ الإنسانَ مِن كُلِّ دَينٍ عَلَيهِ، ويَستعمِلُ بِالتّالي عِبارَةَ "Le sentiment du devoir" أي شُعورَ الوَاجب.

بِالمقابل، الواجِبُ الوَحيدُ الّذي تَطلُبُهُ المَسيحيَّةُ بِلسانِ يَسوعَ، هو مَحبَّةُ الآخرِ كما يسوعُ أحبَّنا، أي محبَّةٌ لا محدودَة وغيرُ مَشرُوطةٍ، وبِدُونِ أيِّ مُقابِل. وإلّا نبقى عبيدًا للأنا الذَّاتيّةِ، وأسرى سجنِ كِبريائِنا المُدَمِّر.

مَن أدرَكَ هذا البُعدَ السَّماويَّ بَدأ مَسيرةَ حياتِهِ بِسَنَةٍ جَدِيدَةٍ مَقبُولَةٍ عِندَ الرَّب، فيزرَعُ نُورًا وهُدوءًا، وسَطَ ضَجيجِ العَالَمِ الهَائِجِ، ويكونُ بنّاءً فاعلًا في حضارةِ المَلكوت. آمين.