في مَطلع تشرين الثاني الماضي قال الرئيس السُوري بشّار الأسد إنّ إحتجاز ودائع بمليارات الدولارات لسوريّين في ​المصارف​ ال​لبنان​يّة، يُمثّل سببًا رئيسًاً للأزمة الإقتصاديّة التي تُعاني منها ​سوريا​(1)! وخلال الأسبوع الماضي خرج علينا مُعارض سُوري للنظام، يُدعى كمال اللبوني، بدعوة ​النازحين​ السُوريّين للإحتذاء ب​اللاجئين​ الفلسطينيّين، لجهة تشكيل مُنظّمات مُسلّحة للدفاع عن أنفسهم، زاعمين أنّهم يُدافعون عن أرضهم ومُوجّهًا دعوات للقتل(2)! فكيف يُعقل أن يمرّ هكذا كلام، أكان صادرًا عن رأس النظام السُوري أم عن مُعارضيه، مُرور الكرام، ومن دون أيّ ردّات فعل لبنانيّة رسميّة، باستثناء بعض الإنتقادات الخجولة من هنا أو هناك؟!.

بداية، لا بُد من التأكيد أنّ أسباب ​الأزمة​ الإقتصاديّة–الماليّة في سوريا، ليست في المبالغ الماليّة السُوريّة التي إحتجزت في المصارف اللبنانيّة، شأنها شأن أموال كل المُودعين اللبنانيّين وسواهم، والتي تؤكّد مُختلف الأوساط المصرفيّة أنّها أقل بكثير من الأرقام التي ذكرها الرئيس السُوري، والتي تفتقر للمصداقية أصلاً كونها تتضمّن ثغرة ماليّة تبلغ 22 مليار دولار! وأسباب الأزمة الإقتصاديّة–الماليّة في سوريا، هي الحرب التي دمّرت سوريا منذ العام 2011 حتى اليوم، وهي العُقوبات المَفروضة عليها من قبل عدد كبير من الدول، وهي الحصار الإقتصادي-المالي الخانق المُتبع ضُدّها من قبل مروحة واسعة من الدول العربيّة والدَوليّة. وفي مُطلق الأحوال، لم يرغم أحد، المُتموّلين السُوريّين على إيداع أموالهم في المصارف اللبنانيّة، بل هم من جاؤوا بكامل إرادتهم وأودعوها في لبنان، بغرض الإستفادة من الفوائد الضخمة التي مُنحت لهم، وبسبب عدم ثقتهم بالنظام المَصرفي في سوريا!.

ولا بُد أيضًا من التأكيد أنّ الدعوات لتسلّح السُوريّين الذين فرّوا إلى لبنان على دُفعات، هربًا من القتل والتنكيل في وطنهم، ولجأوا إلى البلدات اللبنانيّة التي إحتضنتهم بقلوب مَفتوحة، مَرفوضة رفضًا تامًا، حيث أنّه ما هكذا يُكافِئ الضيف مُضيفه، علمًا أنّ كل اللغات في ​العالم​ تتضمّن أمثالاً تتحدّث عن عدم جواز إطالة الإقامة من قبل الضُيوف عند مُضيفيهم، أبرزها مثل غربي مَعروف: "إنّ الضُيوف، كالأسماك، تبدأ رائحتهم (رائحتها) بالإنبعاث بعد ثلاثة أيّام"!(3). ولا يختلف إثنان على أنّ لبنان لا يزال يتحمّل بصبر حتى اليوم تبعات وُجود النازحين السُوريّين على أرضه، على الرغم من كلّ ما تسبّبوا به من أذى لأمنه وإستقراره بسبب تورّط البعض منهم في عمليّات قتل وسرقة وتعدٍّ وشغب، وعلى الرغم من كلّ ما تسبّبوا به من أذى إقتصادي ومالي للبنان الضعيف والعاجز عن تأمين ​الكهرباء​ و​المياه​ وخدمات الطبابة والتعليم ورفع ​النفايات​، إلخ. لأبنائه، فإذا به يُضطرّ لتقاسم كل ذلك مع الملايين من السُوريّين، ناهيك عن مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيّين أيضًا، ومن دون أن ننسى التغيير الديمغرافي الخطير الذي سبّبه وُجود كل هؤلاء الغُرباء للهويّة اللبنانيّة! فكيف يزعم هذا المعارض الهارب من سوريا، أنّ مُخيّما للاجئين في بلدة ببنين في ​قضاء المنية​، هو أرض سوريّة؟! وعن أي حقّ يتكلّم لحمل ​السلاح​ ولتشكيل مُنظّمات مُسلّحة، وبوجه مَن، ولمُقاتلة مَن؟! وبأي خلفيّة يدعو علانيّة للقتل، ولقتل مَن؟! وبأيّ كتاب تاريخ يقرأ في دعوته للنازحين بالتمثّل باللاجئين الفلسطينيّين لتشكيل المُنظمات المُسلّحة؟!.

وممّا سبق، من الواضح أنّ الرئيس السُوري أضاع البُوصلة، وهو حاول تحميل المَصارف اللبنانيّة ما تسبّبت به تداعيات الحرب التي إنفجرت بوجهه، يوم حاول الشعب السُوري الحُصول على حريّته المَفقودة منذ عُقود بسبب نظام ديكتاتوري طال أمده، علمًا أنّ تغييب المُسبّبات الحقيقيّة للحالة المعيشيّة والحياتيّة المُتدهورة في سوريا، لن يُعالج المُشكلة! ومن الواضح أنّ المُعارضة السُوريّة–بغضّ النظر عن حجم تمثيل المُعارض اللبوني، أضاعت هي الأخرى البُوصلة، حيث وبَدلاً من توجيه جُهودها ل​تحقيق​ أهدافها داخل الأراضي السُوريّة وضُدّ خُصومها الحقيقيّين، تُحاول إدّعاء بُطولات وهميّة على أرض لبنانيّة، مع التذكير أنّ المُنظّمات الفلسطينيّة التي رفعت يومًا السلاح ضُد الشرعيّة اللبنانيّة، والتي يتخذها اللبوني اليوم مثالاً يُحتذى، لم تنجح في تغيير هويّة هذه الأرض. ومن الضروري التذكير أنّ ما عجز عن تحقيقه عشرات آلاف جنود الإحتلال الإسرائيلي، وعشرات آلاف جنود الإحتلال السُوري، وعشرات آلاف المُسلّحين الفلسطينيّين والمرتزقة، بين العامين 1975 و2005، لن ينجح في تحقيقه بعض المُشاغبين الذين يخفون أسلحتهم في خيم النازحين، ويحتمون خلف صفة النزوح!.

وفي النهاية إنّ أمن النازحين السُوريّين واللاجئين الفلسطينيّين في لبنان مَحفوظ، وكرامتهم مُصانة، والحادث الفردي الذي حصل عُولج فورًا، وجرى تنفيذ سلسلة إعتقالات بحقّ المُتورّطين، وتأمين المساكن البديلة للنازحين. وبالتالي، على النظام السُوري ومُعارضيه، ترك لبنان وشأنه، والإهتمام بشؤون سوريا، بدلاً من إلقاء تبعات فشلهم في مُعالجة مشاكل الشعب السُوري، على لبنان واللبنانيّين! وعليهما أيضًا العمل بجهد وبدون كلل على إعادة مواطنيهم السُوريّين إلى وطنهم، اليوم قبل الغد، طالما أنّ الجميع غيارى على كرامة هؤلاء النازحين، وهكذا–وكما يُقال ب​اللغة​ العامية اللبنانيّة: "بيرتاحوا... وبريّحوا"!.

(1) قال في حديث إعلامي خلال جولة في أحد المعارض التجاريّة: "ما بين 20 و42 مليارًا من الودائع ربما فُقدت في ​القطاع المصرفي​ السوري الذي كان نشيطًا"، وأضاف: "الأموال التي أخذوها (المُتموّلين السُوريّين) ووضعوها في لبنان، ودفعنا الثمن، وهذا هو جوهر المُشكلة التي لا يتحدّث عنها أحد".

(2) قال في رسالة مُصوّرة بعد إحراق مُخيّم للنازحين في بلدة ببنين في قضاء المنية نتيجة إشكال فردي: "أطالب الأمم المُتحدة بإرسال قوّات دوليّة لحماية اللاجئين(...)، وإذا لا يريدون التصرّف، سأقول لشعبنا وناسنا المَوجودين اليوم في لبنان(...) تسلّحوا، وشكّلوا مُنظّمات لحماية المُخيّمات، متل المُنظمات الفلسطينيّة، شكّلوا مُنظّمات لحماية المُخيّمات بالسلاح، والذي يقترب منكم إقتلوه، أيّا يكن، هذه أرضكم وهذا حقّكم والذي يريد الإعتداء عليكم يجب أن يدفع الثمن".

(3) قول مَشهور لبنجامين فرانكلين: Guests, like fish, begin to smell after three days