عارياً إلَّا مِن ذاتِهِ، يَقِفُ لبنانُ في عَراءِ العالَمِ وَقَد باتَ وجوداً غارِقاً وَمُغرِقاً في فَنائِيَّاتِ الزَوالِ.
وَهوَ يُدرِكُ أنَّ المُطلَقَ كَلِمَةٌ بِالقوَّةِ، وَلا يَغدو كَلِمَةً بالفِعلِ إلَّا مَتى إلتَزَمَ العَقلَ، باعِثَ النورِ في الرؤيَةِ لِتَحقيقِ الخَلقِ. أيَكونُ الخَلقُ هو الحَقُّ؟ بَل كُلُّ ما لَيسَ في النورِ لَيسَ خَلقاً، وَتالياً لَيسَ مِنَ الحَقِّ وَلا لِلحَقِّ. والخَلقُ إذا ما وجِدَ في الحَقِّ، باتَ كُلُّ الوجودِ لا مُجَرَّدَ وجودٍ... عابٍرٍ يَوماً الى غيابِ.
تِلكَ الشَهادَةُ يؤَدِّيها لبنانُ في نُشدانِهِ إستِحقاقاتِ الحَياةِ. وَهوَ ثابِتٌ أبَداً في ظَمَأ القُدسِيِّ المُطلَقِ.
ذاكَ عُريُ لبنانَ، مُنذُ بَدءِ البَدءِ.
وَهوَ مُتَأصِّلٌ في جَلالَينِ مُتَلازِمَينِ، بَثَّهُما روحاً في العالَمِ: طائِرُ الفينيقِ رَمزُ الغَلَبَةِ على إنكِساراتِ المَوتِ، والأبجَدِيَّةُ لِيَتَعَلَّمَ العالَمُ لُغَةَ الفينيقِ فَيُتيحَ لِكُلِّ فَردٍ وَجَماعَةٍ المُشارَكَةَ في صَيرورَةِ العالَمِ. قُلّ: الدُخولَ لِلمُستَحيلِ، وَقَد إرتَوى مِن كُلِّ ظَمَأ في القَلبِ حَيثُ الحَقُّ إنعِتاقٌ لِلتَأصُّلِ في الأُلوهِيَّةِ. هَذا المُنطَلَقُ لا يُمَثِّلُ "تاريخاً" بِحَصرِ الكَلِمَةِ بَل أكثَرَ، إختياراً يَرفَعُ الزَمَنَ الى لَمَساتِ الأبَدِيَّةِ، مِنَ الوَعي الى الثَباتِ عَبرَ تأسيسٍ... أُمَمِيٍّ يُصالِحُ الحَضاراتِ مَعَ بَعضِها بِرِباطٍ ثالوثِيٍّ: الجُغرافيا، والُلغَةُ، والثَقافَةُ.
أفي هَذا التَناغُمِ السِمفونِيِّ تَحقيقُ الأصلِ، مِنَ الضَرورَةِ الخاصَّةِ الى المَصيرِ المُشتَرَكِ؟
ذاكَ بَدءُ البَدءِ، في عُري لبنانَ: أن يَكونَ الوساطِيَّةُ الوَحيدَةُ بَينَ العالَمِ القَديمِ وَعالَمِ ما بَعدَ الميلادِ. هو المُتَأصِّلُ في الجُغرافيا والتاريخِ في وجودِ الوجودِ، مَبنِيٌّ على أعمَقَ وأقوى مِنَ التاريخِ والجُغرافيا. هو مُؤَسِّسٌ لِ jus gentium حَقِّ الشُعوبِ في الإنوِجادِ وَتَقريرِ المَصيرِ، وَقَد كَرَّسَهُ عَيشاً مِن خِلالِ تَواصُلِهِ مَعَ العالَمِ القَديمِ لا بِالإحتِلالِ وِلا بِالإقصاءِ وَلا بِالإلغاءِ بَل بِتَبادُلِيَّاتِ التَحاورِ قاعِدَةَ إرساءِ الحَقِّ وإحتِرامِهِ، وَأدخَلَهُ لاحِقاً في صُلبِ قانونِ روما إمبراطورِيَّةِ الصَلبِ ألْكانَت تَفصِلُ بَينَ الحُرِّ والعَبدِ، المواطِنِ-الرومانِيِّ-الأصلِ والأغرابِ-العَبيدِ-المُستَعبَدينَ، أفراداً وَجماعاتٍ، على أساسِ العِرقِ أوِ المَصلَحَةِ أوِ الدينِ.
عارياً إلَّا مِن ذاتِهِ، يَقِفُ لبنانُ في عَراءِ العالَمِ وَقَد باتَ سَطحِيَّةً كُبرى بِمُبالَغَةِ العَصرَنَةِ في نَقيضَينِ: الإستِغرابُ أو الإستِعرابُ، دَفَعَهُما التَلازُمُ لِلإندِثارِ بَينَ ذِمِيَّاتٍ مُتَناحِرَةٍ. أتُراهُ يَقِفُ حِتَّى فَيضِ الرَمَق ِالأخيرِ مِن كَثرَةِ شَظاياهُما؟
العَودَةُ الى البَدءِ
أجَل! عُريُ لبنانَ عامودِيٌّ. لِيسَ مُجَرَّدَ تَقَشُّفٍ انتروبولوجِيٍّ، بَل إرتِقاءً مِن كِفاياتِ الأرضِ العابِرَةِ الى الإكتِفاءِ بِالأُلوهِيِّ، في أُمورِ الحياةِ الأرضِيَّةِ. أتَمَثُلٌّ هو هَذا الُلبنانُ في عُريهِ، بِنَوعٍ إستِباقِيٍّ ‒ما-قَبلَ-إنجيلِيٍّ‒ بالمَسيحِ، وإتِّحادٌ بِهِ بِوَصفِهِ آدَمَ الجَديدِ؟
أجَل! عُريُ لبنانَ عَودَةٌ الى البُستانِ الأَوَّلِ، الفِردَوسِ الأَوَّلِ. وَلَكِن أكثَرَ بَعدُ. مِن فينيقِهِ المُنبَعِثِ مِن رَمادِهِ بَعدَ ثُلاثِيَّةِ مَوتٍ، وقوفٌ في القَبرِ الفارِغِ، المَفتوحِ على الخَليقَةِ بِأسرِها، حَيثُ المَجدَلِيَّةُ حَسَبَتِ الآدَمَ الجَديدَ هو البُستانِيُّ.
أجَل! عُريُ لبنانَ أبَعَدَ مِنَ العَودَةِ الى البَدءِ.
عُريُ لبنانَ الآدَمِيَّةُ الجَديدَةُ.
بِها، هو البَدءُ لِكُلِّ تاريخٍ وإنطِلاقُ كُلِّ مَسارٍ جُغرافِيٍّ... بِقُبولِهِ. في المَجدِ يَتَجَلَّى، إلَّا مِن جِراحاتِهِ، لِأجلِ شِفاءِ العالَمِ. بِمِعنى أن يَنوَجِدَ في تاريخِ كُلِّ مَسارٍ، ما يؤَهِلُّ كُلَّ المَسارِ لِإدراكِ سِرَّ لبنانَ بِعُريهِ... لِبُلوغِ جَديدِ الآدَمِيَّةِ، بِأبجَدِيَّةِ لبنانَ-الكَلِمَةِ ألْباتَت كُلَّ الفِعلِ.
بِها، حَسمُ لبنانَ في مَراتِبَ الوجودِ... يَتَناهى الى آفاقِ كُلِّ شَيءٍ.