لقد ظهرَ المسيحُ للعَالَم، أنارَهُ ومَلأهُ فَرَحًا. قَدَّسَ المِياهَ وأشعَّ النُّورُ في نُفوسِ النَّاس. لقد ظَهرتْ شمسُ العَدلِ ومَحَتْ ظلامَ الجَهل. الابنُ الوَحيدُ للآبِ ظَهرَ لَنا، وأعطَانا بِعِمَادِهِ أن نَكونَ أبناءَ اللهِ (القِدِّيسُ برُوكِلُّس بَطريركُ القِسطنطينِيّة +٤٤٦م).

يقولُ القِدّيسُ يُوحنّا الذَّهبيّ الفَم (+٤٠٧م): "نُسَمِّي مَعمُودِيَّةَ يَسوع Epiphany، لأنّ النِّعمةَ الخَلاصِيَّةَ للرَّبِّ ظَهرتِ اليَومَ لِكُلِّ النّاس".

Epiphany ((Ἐπεφάνη كلمةٌ يُونانِيَّةٌ تَعني "ظُهورٌ عُلويٌّ/ مِن فوق" إذ epi تَعني مِن فَوق، و phani هو فِعلُ الظُّهور.

طبعًا هذا العِيدُ هُوَ ظُهورٌ مِنَ العُلى كما يَقُولُ ال​إنجيل​: "فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلًا: "هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ"(متى ١٦:٣-١٧). "انْفَتَحَتْ لَهُ السَّماوَات".

كما نقرأ في إنجيل يوحنّا شَهادةَ القِدِّيس يُوحنَا المَعمدان بِذَلِك: "إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ" (يوحنا ٣٢:١). "نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ".

وهذا تحديدًا ما نَقُولُه في سَحَرِ هذا العِيدِ المُبارَك: "إنَّ الإلهَ الكَلِمَةَ قد ظَهَرَ بِالجَسَدِ لِبَنِي البَشَرِ فانتَصَبَ لِيَصطَبِغَ في الأُردُنّ... إنّكَ وإن تَكُن قد جِئتَ طِفلًا مِن مَريَمَ، فإنّي قد عرفتُكَ إلهًا أزليًّا". فعلُ "ظَهَرَ" المُستعمَلُ هنا هو نَفسُه ἐπεφάνη. والذي ظَهَرَ الإله الأزليّ.

كذلك تُدعَى هَذِهِ المَعمُودِيَّةُ "الظُّهورَ الإلهيّTheophany (θεοφάνη)" إذ Theo تَعني الله.

لِكَي نُدرِكَ بِالعُمقِ مَعنَى هذِهِ التَّسمية، عَلَينا التَّوقُّفُ قَلِيلًا أمامَ التَّدبيرِ الإلَهِيّ.

"الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا"(يوحنا ١٤:١). فِعلُ حَلَّ هُنا بِلُغةِ النَّصِّ الأصليِّ اليُونَانيّ σκηνέω أي سَكَنَ أو نَصَبَ خَيمتَهُ بِمَعنى حَلَّ في دِيارِنا.

نعم، لقد أَتى الرَّبُّ إلَينا وعَاشَ وسَكَنَ مَعَنا لِنَقتَبِلَ بِدَورِنا الإلَهِيَّاتِ ونَرتَفِعَ مَعَه. وهذا ما نُرَتِّلُه في خِدمةِ عِيدِ المِيلادِ "المسيحُ وُلِدَ فمجِّدُوه، المسيحُ أتى مِن السَّماواتِ فاستَقبِلُوه، المسيحُ على الأرضِ فارتَفِعُوا".

فَوِلادَةُ الرَّبِّ بِالجَسَدِ ظُهورٌ إلهيٌّ. الطَّبيعةُ الإلهِيَّةُ اتَّحدَت بِالطَّبيعةِ البَشريّةِ في أحشَاءِ العَذراءِ مَريمَ، ووُلِدَ الرَّبُّ مِنها، ورَأينَا مَجدَه، وهُوَ الإلهُ الّذي قَبلَ الدُّهورِ، كما نَقولُ في دُستورِ الإيمان. فالمَسيحُ هُوَ الأُقنومُ الثّاني غيرُ المُنفَصِلِ عَنِ الآبِ والرُّوحِ القُدُس، والثّلاثةُ هم واحِدٌ في الجَوهَر.

لِذا تُسمِّي الكَنيسةُ عيدَ البِشارَةِ عيدَ "التَّجسُّد الإلهيّ"، وعيدَ المِيلادِ المَجيدِ عيدَ "ظُهورِ اللهِ في الجَسَد".

وهُنا تَكمُنُ القاعِدَةُ الأساسيَّةُ لِلإيمانِ المَسيحيّ، الّذي يَقُولُ بِاتِّحادِ الطَّبيعةِ الإلَهِيَّةِ بِالطَّبيعَةِ البَشريَّةِ اتّحادًا كَامِلًا دُونَ أن تُلغِيَ الوَاحِدَةُ الأُخرى، كما جاء في المَجمَعِ المَسكُونِيّ الرَّابعِ في خَلقِيدُونِية عام ٤٥١م: "المسيحُ هُوَ نفسُهُ تَامٌّ في الأُلوهَةِ وتَامٌّ في البَشَرِيَّة، إلهٌ حَقٌّ وإنسانٌ حَقّ"، وطبِيعَتَا المَسيحِ "مُتَّحِدَتَان دُونَ اختِلاطٍ ولا تَحَوُّلٍ ولا انقِسَام ولا انفِصَال".

فالّذي وُلِدَ مِنَ العَذراءِ مَريم، والّذي ظهَرَ في مِياهِ الأُردُنّ هُوَ الإلهُ المُتَجَسِّد. فَهذا الظُّهُورُ الإلهِيُّ بِالجَسدِ الّذي بَدَأَ في المِيلادِ، أوصى بِهِ بُولُسُ الرَّسولُ تَعلِيمًا واضِحًا لِكُلِّ الأجيالِ، فكَتَبَ يَقول: "وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ"(١ تيموثاوس ١٦:٣).

وفي معموديّةِ يَسوعَ في مِياهِ الأُردُنّ، رافَقَ ظُهورَ الإلهِ بِالجَسدِ سَماعُ صَوتِ الآبِ وظُهورُ الرُّوحِ القُدُس، لِتُصبِحَ بِالتَّالي ظهورًا وكَشفًا إلهيًّا ثالوثيًّا.

كذلك، يُسمّي القِدِّيسُ غريغورِيوسُ النّزيَنزي (٣٢٩-٣٩٠م) هَذا العِيدَ "عيدَ الأنوار Ta Fota أو Ton Foton"، ويُسمّي عيدَ الميلادِ "عيدَ الظُّهورِ الإلهيّ Theophany "، ويقولُ إنّ المَسيحَ أتى لِيُنيرَ الّذينَ في الظَّلام. "الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ" (مت ١٦:٤).

كما وردت تسمية "عيد الظهورات" عند الآباء القدّيسين.

ونقرأُ في كتابٍ قديمٍ "Diatessaron"، عند تَاتيانُوس مِن القَرنِ الثّاني الميلادي، أنَّ نهرَ الأُردُنّ اشتَعَلَ نَارًا ونُورًا بِنُزولِ الرَّبِّ فيه. نَارٌ لِحَرقِ الخَطايا، ونُورٌ لِزوالِ الظُّلمة.

ولِهذهِ المَعمُودِيَّةِ تَسمياتٌ أُخرى، مِثلَ "الغطاس" مِن غَطَسَ، إشارةً إلى نُزولِ الرَّبِّ يَسوعَ كُليًّا في المِياه. والفِعلُ يُونَانِيٌّ "فابتيزما βάπτισμα مِن βάπτω فابتو"، الّذي أصبَحَ بالإنكليزيّة والفَرنسيَّةِ Baptiser / Baptize، وهو يَعني الاصطِباغ، وقد استَعملَهُ الرَّبُّ إشارةً إلى المَوتِ عَلى الصَّليبِ، عِندما تَقَدَّمت إلَيهِ أُمُّ التِّلميذَين يُوحنّا ويَعقوبَ مَعَ إبنَيها، وهُوَ في طَريقِهِ إلى أُورَشَليمَ لِيَمُوتَ ويَقُومَ في اليَومِ الثَّالث، حيثُ طَلبَتْ مِنهُ أن يُجلِسَ وَلدَيها عن يَمينِه ويَسارِهِ في مَلكُوتِه. فأجاب: "بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ" (متى ٢٠:٢٠-٢٣). فالمَسيحُ اصطَبَغَ بِدَمِهِ على الصَّليب، وهذا ما يَحصُلُ في مَعمُودِيَّتِنا، نُدفَنُ مَعَهُ ونَقُومُ مَعَه. (​رومية​ ٣:٦-٥).

كَذلِكَ يُسمَّى هذا العِيدُ بِالسُّريَانِيَّةِ "دَنْح (دنحو)" ومَعناهَا الإشرَاق.

ويَبقى الهَدفُ مِن كُلِّ هَذا مَا نُرَتِّلُهُ في خِدمَةِ العِيد: "أنتُم الّذِينَ بِالمَسيحِ اعتَمَدتُم، المَسيحَ قد لَبِستُم، هللويا".