مجدّداً، عاد الصراع بين حليفي الأمس، حزبي "​القوات​" و"الكتائب"، ليتصدّر المشهد الداخليّ، على وقع "الفراغ الشامل" الذي تشهده الساحة السياسيّة، وفي ظلّ غياب أي آفاقٍ لحلّ الأزمة الحكوميّة المتفاقمة، والتي لا يبدو أن "خواتيمها" اقتربت، رغم كلّ الوساطات والمبادرات، العاجزة حتى الآن عن تحقيق أيّ "خرقٍ"، ولو بالشكل.

قد يكون هذا "الفراغ" العام، والذي ينذر بالأسوأ، هو الدافع خلف البحث عن إطاراتٍ أخرى للمشهد، تجد "ضالتها" في سجالٍ "ناريّ" عبثيّ متصاعدٍ بين حزبيْن لطالما اعتُبِرا "شريكيْن"، لا سيّما أنّهما يتقاسمان المبادئ "السياديّة" نفسها، فضلاً عن القِيَم الاستراتيجيّة الواحدة، فإذا بهما يختلفان على "جنس الملائكة".

هكذا، كان اللبنانيّون على موعدٍ خلال الأيام القليلة الماضية، مع جولةٍ جديدة من معارك "القوات" و"الكتائب"، التي تكاد تصبح "مُستنسَخة" طبق الأصل عن بعضها البعض، بكلّ تفاصيلها، بما فيها طريقة "اشتعالها" كلّ مرّة، من دون أيّ مقدّمات، وسط تساؤلاتٍ جدّية عن "جدواها"، في بلدٍ على شفير الانهيار...

من بدأ؟

كما في كلّ جولة من الصراعات "الدونكيشوتية" بين "القوات" و"الكتائب"، والتي تكاد تغلب على صراعاتهما مع خصومهما التقليديّين، كـ"​حزب الله​" و"​التيار الوطني الحر​" مثلاً، يسيطر سؤالٌ واحدٌ على الأوساط السياسيّة، فكيف تطوّرت الأمور إلى هذا الحدّ من السجالات والسجالات المضادة بشكلٍ مفاجئ؟ ومن يتحمّل مسؤولية تجدّد الاشتباك أصلاً؟ ولماذا لم يضبط الفريقان نفسيهما، وهما اللذان يتقنان ضبط ردود فعلهما مع "أشرس" الخصوم؟.

وكما في كلّ جولة، يتبادل الفريقان رواياتٍ متباينة لجذور "الخلاف" المستجدّ، وأسباب تطوّره "الدراماتيكيّ". فعلى خطّ "القوات" مثلاً، يبدو الاتهام جاهزاً لرئيس حزب "الكتائب" ​سامي الجميل​، الذي بات "يستفزّ" بعض "القواتيّين" أكثر من رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق ​جبران باسيل​، وفق ما يقولون، مستغربين إصراره على "إحياء" السجال بين الفينة والأخرى، بمواقف تبدو "استعراضيّة" في جانبٍ كبيرٍ منها، فضلاً عن كونها لا تقدّم، بل ربما تؤخّر في الأزمة السياسيّة القائمة.

ويذهب "القواتيون" أبعد من ذلك، ليشيروا إلى أنّ الرجل لم يعد يفوّت مناسبة إلا ويطلق سهامه نحو "القوات" بشكلٍ مباشر، فيعتبرها تارةً جزءاً من المنظومة السلطوية، متناسياً أنّ حزبه كان ولا يزال جزءاً لا يتجزّأ من هذه المنظومة، ويتحمّل مسؤوليّاتٍ أكبر بعيون الناس أولاً، ويضع طوراً كلّ مصائب البلد وويلاته في "رقبتها"، بسبب إبرامها "تفاهماً" مع "العهد" في مرحلة من المراحل، أو انخراطها في التسوية الرئاسيّة، رغم إدراكه أنّ مثل هذه المقاربة "المُبالَغ بها" لا تستقيم.

في المقابل، يرى "الكتائبيّون" أنّ المشكلة تبقى في عقليّة "القوات" التي لم تعد تتقبّل أيّ كلمة انتقاد، مهما كبُر أو صغُر حجمها، فكلما أطلّ النائب الجميل في خطابٍ أو في مقابلةٍ تلفزيونيّة، وعبّر عن قناعاته في ما يتّصل بالعلاقة مع "القوات"، رداً على أسئلة مُحاوريه، "تثور ثائرة القواتيين"، فسيتنفرون وينتفضون، ويباشرون "القصف العشوائيّ"، وكأنّ المطلوب من الجميل أن "يصدّق" على كلّ ما يؤمنون به، ويُمنَع عليه أن يعبّر عن أيّ رأي خاص ومستقلّ.

جمهور واحد!

يعتقد "الكتائبيّون" أنّ مشكلة "القوات" الأساسيّة مع النائب سامي الجميل تكمن في أنه يقول في العلن ما يفكّر به كثيرون، حتى في البيئة "القواتية" نفسها في السّر، باعتبار أنّ "التململ" في الساحة المسيحيّة بات واسعاً، ولو أنّ "القوات" تعتقد في المقابل، أنّ هذا "التململ" لم يشملها، بل إنّ "الهجرة" من الأحزاب الأخرى تحصل باتجاهها، وهذا هو "بيت القصيد" بالنسبة إليها.

لكن، بمُعزَلٍ عن دقّة وواقعيّة كلّ ما سبق، يبقى الأكيد أنّ المعركة الأخيرة التي دارت بين الجانبيْن استندت إلى الإطلالة التلفزيونية الأخيرة للنائب الجميل، باعتبارها شكّلت السبب المباشر للمبارزة "غير الودّية" بينهما، خصوصاً لجهة ما تضمّنته من كلامٍ عالي السقف أطلقه رئيس حزب "الكتائب"، حين اعتبر أنّ "لا ثقة" بأن حزب "القوات" يختلف عن المنظومة الموجودة، ولا سيما أنّه كان جزءاً من ​التسوية الرئاسية​ وساهم فيها ودافع عنها وصوّت على القانون الانتخابي الذي أوصل "حزب الله" إلى السلطة، وكان في الحكومة التي قامت ​الثورة​ ضدّها.

وإذا كان ردّ "القوات" جاء أعنف من كلام الجميل، عبر وضعه ما يقوم به الأخير في "مصاف الجريمة الكبرى من خلال دقّه الأسافين المتواصلة في العلاقة بين حزبين يربطهما تاريخ طويل، وتضحيات مشتركة"، ثمّة من يرى أنّ "التاريخ الطويل والتضحيات المشتركة" هو "لبّ الموضوع" في الخلاف المتفاقم بين الجانبيْن، اللذين "يتنازعان" على جمهورٍ واحدٍ، بشكلٍ أو بآخر.

ويشير أصحاب هذا الرأي إلى أنّ "جذور" الخلاف بين الجانبيْن تنبع من هذا "التباين" على وجه التحديد، خصوصاً أنّ الاتفاق بينهما على المسائل السياسية والاستراتيجية قد يكون مفروغاً منه، ولا نقاش أو جدال حوله بأيّ شكلٍ من الأشكال، وهذا بالتحديد ما يخلق "المنافسة" التي تولّد "مزايدات" بالجملة تختلط بـ"الشعبوية" بكلّ معانيها، ولا تلبث أن تتطور إلى "صراعات" لا تحمد عقباها، كما هو حاصلٌ حالياً بالتحديد.

"منافسة" من نوع آخر

بين "القوات" و"الكتائب"، اتفاقٌ في المبادئ ينسحب على السياسة والاستراتيجيات، وهو ما ترجم في محطّاتٍ مفصليّة تاريخيّة حديثهما، من خلال تموْضعهما في "خندقٍ واحدٍ"، كما حصل مثلاً في مرحلة ما بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري.

بينهما أيضاً، "منافسة" من نوعٍ آخر، تتجلى حتى في المحطّات "المشتركة"، كما حصل مثلاً حين كانا "شريكيْن" في معسكر "​14 آذار​"، قبل أن ينكفئ "الكتائبيون" تحت شعار "التمايز" الذي شكّل بداية "الانفصال"، أو "الافتراق" في المسار، كما يحلو للبعض القول.

باختصار، قد يكون سبب كلّ مشاكل "القوات" و"الكتائب" أنّهم "يأكلان من الصحن نفسه"، إن جاز التعبير، بالمعنى الشعبيّ، ما يولّد "مزايداتٍ شعبويّة"، تكاد تكون أخطر بأضعاف من الخصومة السياسيّة المعتادة، أمرٌ تكرّسه المعارك "المفتعَلة" بين الجانبيْن، والتي لم يعد لها طعمٌ ولا لون...