في نيسان من العام 1993، تمّ تعيين ​رياض سلامة​ حاكمًا لمصرف ​لبنان​ لولاية من ست سنوات قابلة للتجديد. ومنذ ذلك الحين، جرى التجديد دوريًا للحاكم على مدى نحو ثلاثة عُقود، على الرغم من كل التحوّلات والخضّات التي مرّ بها لبنان. وخلال السنوات والأشهر الماضية، جرت مُحاولات عدّة غير ناجحة لإقالة سلامة من منصبه، علمًا أنّ ولايته الخامسة الحاليّة تستمرّ حتى تمّوز 2023. فهل تكون الحملة الحاليّة، مع ما يُرافقها من إتهامات وربّما من أدلّة، كفيلة بتغيير هويّة حاكم ​المصرف المركزي​ الذي ينقسم الرأي بشأن ما إذا كان بريئًا أم مُذنبًا؟ وبالتالي، هل يُمكن أن يقود التحقيق المالي القائم في ​سويسرا​ حاليًا إلى إدانة سلامة، وهل يُمكن أن تقود الدعوى المَرفوعة من قبل مُدعي عام ​جبل لبنان​ القاضية ​غادة عون​ على حاكم ​مصرف لبنان​ بجرم إساءة الأمانة بإدارة ​الدولار​ المَدعوم، إلى إقالته ومُحاكمته؟.

بداية، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ من يعتبر سلامة مُذنبًا، يُحمّله مسؤوليّة مجموعة من القرارات التي جاءت نتائجها كارثيّة، وأبرزها:

أوّلاً: فشل الهندسات المالية، وتحديدًا سياسة تثبيت الدولار على سعر صرف وهمي، الأمر الذي إستنزف عشرات مليارات الدولارات مع مرور السنوات، بسبب مُواجهة لبنان سلسلة لا تنتهي من الخضّات الأمنيّة والسياسيّة، ومن الإغتيالات والتفجيرات، مُرورًا بالفراغ المُتكرّر في مواقع الحُكم الرئيسة، وُصولاً إلى الخلافات والصراعات الداخليّة التي لا تنتهي، ما إستدعّى ضخ المليارات من الدولارات في كل مرّة لإمتصاص التداعيات، وأسفر عن تراجع مُضطرد ومتواصل لودائع المصرف المركزي.

ثانيًا: تغطية أخطاء وسوء تقدير السُلطات التنفيذيّة المُتعاقبة، لجهة مدّها بالسيولة من أموال ​المصارف​ التي هي في النهاية أموال المُودعين، مثل تمويل زيادات عشوائيّة وغير مَدروسة في الرواتب، ومثل تمويل مشاريع غير منتجة وحتى صفقات مَشبوهة، إلخ. وذلك على الرغم من المعرفة المُسبقة أنّ الدولة ليست قادرة على إعادة هذه الديون، علمًا أنّ هذه الجريمة المَوصوفة تواصلت على مدى سنوات بهدف تحقيق أرباح طائلة من الفائدة على الدين، بحيث كبر حجمه بشكل هائل إلى درجة باتت معها السُلطة عاجزة عن دفع مُستحقّاتها الداخليّة والخارجيّة، فحصل ما حصل من عجز ومن إنهيار سريع للعملة.

ثالثًا: إطلاق التطمين وراء التطمين بثبات سعر الصرف، وبقدرة المركزي على تأمين الإستقرار المالي، قبل أن تنفجر الأزمة دُفعة واحدة إثر إحتجاجات 17 تشرين الأوّل 2019، ليقع كل المُودعين ضحايا عمليّة الغشّ التي حصلت، فظهر حجم ​العجز المالي​ المُخيف، وحجم الهُوّة الهائلة بين الأموال التي يُفترض أن تكون محفوظة بأمان وتلك الموجودة فعليًا، لينهار عندها عامل الثقة بين المودع والمصارف بشكل تام، فأصدر الحاكم سلسلة من التعاميم غير القانونيّة للجم حركة سحب الأموال. وبعد أن فقد أصحاب الودائع بالليرة اللبنانيّة قيمة ودائعهم بسرعة مخيفة، إستمرّت جريمة ​سرقة أموال​ أصحاب الودائع بالعملات الأجنبيّة، حيث يتمّ دفع قيمة السُحوبات بالليرة اللبنانيّة بما يُساوي حاليًا نحو 44 % من قيمة سعر صرف الدولار في السوق السوداء. وليس بسرّ أنّ الكثير من المُواطنين يُضطرّون دوريًا للسحب من هذه الودائع لتغطية نفقات معيشتهم، بعد أن إستشرى الغلاء، وربما لأنّهم فقدوا وظائفهم كليًا أو جزئيًا، فيما يقوم مودعون آخرون بسحب أموالهم على الرغم من خسارة أكثر من نصفها لصالح المصارف، وذلك خوفًا من خسارتها كلّها مُستقبلاً!.

في المُقابل، يتحدّث المُقتنعون ببراءة سلامة إزاء كل ما حصل، بأنّه كان مأمورًا من الحُكومات والسُلطات التنفيذيّة المُتعاقبة، والتي لم تستمع لتحذيراته المُتكرّرة لها على مدى سنوات وسنوات. ويعتبر هؤلاء أنّ حاكم مصرف لبنان كان مُضطرًّا لتنفيذ تعليمات السُلطة، ولتعويض إخفاقاتها المُتكرّرة عبر تأجيل الإنهيار من سنة إلى أخرى. والمُقتنعون بعدم مسؤوليّة سلامة عمّا حصل، يَعتبرون أنّ الدولة مسؤولة عن الإنهيار، لأنّها فشلت في إعادة الأموال التي إستدانتها، ولأنّها أهدرت المليارات في تغطية عجز ​مؤسسة كهرباء لبنان​، ومُختلف مؤسسات وهيئات الدولة الفاشلة. أكثر من ذلك، يَعتبر المُدافعون عن سلامة أنّ ما يجري معه، هو عبارة عن حملة مُركّزة بخلفيّات سياسيّة، لأنّ "التيّار الوطني الحُرّ" يريد إقالته من منصبه، وإستبداله بشخصيّة جديدة جاهزة لتغيير كل النهج المالي الذي كان مُتّبعًا من قبل سلامة، ولأنّ "​حزب الله​" يريد أن يكون حاكم المصرف غير جاهز بشكل تلقائي لتنفيذ الإملاءات الأميركيّة بفرض العُقوبات على "الحزب" وعلى شخصيّات عدّة ضمن بيئته الحاضنة.

وإذا كانت الدعاوى المحليّة على سلامة يُمكن أن تدخل في سياق الصراع السّياسي القائم، وفي إطار إستغلال النقمة الشعبيّة على الأوضاع القائمة لتقديم كبش فداء للرأي العام اللبناني الراغب بالإنتقام، والحالم بإستعادة أمواله المَنهوبة، فإنّ التحقيق القضائي السويسري لا يُمكن أن يكون مُنحازًا، مهما بلغ حجم الوشايات ومُستوى الحملات الإعلاميّة على سلامة. من هنا، من الضروري ترقّب ما سيؤول إليه الملفّ المالي الذي فتحه ​القضاء​ السويسري الحريص على سمعة مصارفه، وعلى نظامه المالي ككلّ، بعيدًا عن أيّ غسل أو تبييض للأموال، وبعيدًا عن أي تحويلات ماليّة مَشبوهة وغير قانونيّة. ومن المُنتظر أن تأتي كلمة القضاء السويسري النهائيّة بناء على وثائق ومُستندات مُقنعة، علمًا أنّه تردّد خلف الكواليس أن حاكم المصرف يُحضّر ملفًا كاملاً للردّ على كل الإتهامات بحقّه، على أن يرفعه أمام القضاء السويسري قريبًا.

في الختام، الأكيد أنّ الأيّام والأسابيع المُقبلة ستحمل أكثر من إجابة على أكثر من تساؤل، على أمل أنّ تكون هذه الإجابات شافيّة، والأهم أن يدفع المُذنبون الحقيقيّون عمّا يُعانيه الشعب الللبناني من مصائب، الثمن غاليًا، طالما أنّ إستعادة الأموال المَنهوبة هو حلم يقظة!.