في الوقت الذي يتمسك العدو “الإسرائيلي” بأرض ​لبنان​ية محتلة في ​الجنوب​، ويسقط الحدود الدولية بين لبنان و​فلسطين​ المحتلة وينتهك الأجواء اللبنانية بشكل دائم حتى جعل فضاء لبنان ملحقاً ب​الفضاء​ المحتل في فلسطين تمارس عليه “إسرائيل” ما تراه بأنه بات “حقوقاً مكتسبة”، ومع هذا وبعد هذا تقتحم “إسرائيل” المنطقة الاقتصادية ​البحرية اللبنانية​ وتحضّر للتنقيب داخلها في البلوك 72 وفقاً لخرائطها وهو البلوك الذي يقتطع جزءاً كبيراً من البلوك 8 والبلوك 9 اللبنانيين، في هذا الوقت نجد اللبنانيين وللأسف مُغمَضي الأعين عن كلّ ما ذكر ويتصرفون وكأن شيئاً لم يكن من اعتداء او تهديد باغتصاب ثروة.

وإذا كنا قد قلنا الكثير سابقاً حول طبيعة وخطورة الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وانتهاكها حقوقه وثرواته، فإننا اليوم نعود للتوقف عند المستجدّ او الجديد منها وهو تحضيرات “إسرائيل” واتخاذها الإجراءات للتنقيب عن ​النفط والغاز​ داخل المنطقة الاقتصادية اللبنانية وتحديداً في المساحة المتنازع عليها والواقعة بين خط (1) الذي رسمه خطأ مع قبرص وفد لبناني غير كفوء، والخط (23) الذي رسم في لبنان وفقاً لتفسير خاطئ لقانون البحار، وطبعاً تنقب متجاوزة المطلب الذي تقدّم به لبنان في المفاوضات غير المباشرة في ​الناقورة​ المطلب الذي يضيف الى مساحة 860 كلم2 (المثلث بين الخطين 1 و23) مساحة 1430 كلم2 عملاً بحدوده البحرية الجنوبية التي تعيّن بالخط 29 الذي رسم وفقاً للمرجعيات القانونية الثلاث: اتفاقية ​ترسيم الحدود​ البرية “بوليه نيوكمب” واتفاقية ​الهدنة​ المؤكدة على الأولى وقانون البحار الذي استند إليه ​الوفد اللبناني​ وفقاً لأدقّ وأفضل التفسيرات المعتمدة عالمياً، وهو التفسير الذي يتلاقى مع موقف المكتب الهيدروغرافي ​البريطاني​ الذي وصل الى النتيجة اللبنانية ذاتها.

لكن “إسرائيل” رسمت خرائطها وأطاحت بكلّ تلك القواعد والأحكام المعتمدة في القانون الدولي العام مستفيدة من الصراع الداخلي اللبناني والانشغال لا بل ​الفراغ السياسي​ الداخلي في لبنان وإقدام قوى لبنانية على إلهاء اللبنانيين و​المقاومة​ بطروحات عقيمة ليس الزمن زمنها ولا الظرف يناسبها ولا ​البيئة​ حاضرة لها في ظلّ أخطار تتهدّد لبنان، أخطار قد تتعاظم وتتعدى طاقات لبنان على الاحتمال ما يتسبّب بضياع القدر البسيط المتبقي للبنانيين من أمل في إنقاذ دولتهم واستعادة حقوقهم.

وبالمناسبة كان مستهجناً من قبل رجال العلم السياسي والقانوني ما سمع من طروحات من مسؤولين لبنانيين ك​وزير الخارجية​ وغيره، طروحات تتضمّن القول إنّ استعادة المرسوم 6433/ 2011 الذي أودعه لبنان لدى ​الأمم المتحدة​ يضعف موقف لبنان التفاوضي. وهنا نسأل أصحاب هذه الطروحات العجيبة الغربية التي تتناقض مع المنطق العلمي السليم: متى كان تصحيح الخطأ يضعف موقف مَن صحّحه؟ وهل يعرف مدّعو هذا الموقف انّ الخط 23 المعتمد في المرسوم هو الوهن والضعف بذاته، وهو الذي يجعل الوفد اللبناني عاجزاً عن الدفاع عنه بعد ان رسم على خريطة تجاهلت حدود لبنان البرية وحملت اعترافاً ضمنياً بـ “إسرائيل” وأسقطت قواعد التفسير والتطبيق لقانون البحار في تحديد نقطة البدء انطلاقاً من البرّ؟ هل يعرف أصحاب هذه الطروحات أنّ قولهم يؤدي خدمة مجانية للعدو في موقفه التفاوضي؟ وهل يعلم هؤلاء أن عدم إصغائهم لمطلب الوفد اللبناني شجع “إسرائيل” على التمادي في العدوان على المنطقة الاقتصادية اللبنانية ليس في المساحة فحسب 1430، ولم تقتصر في عدوانها على المساحة 860 كلم2 فقط بل تجاوزت في عدوانها الـ خط 1 الخطأ أيضاً.

انّ على المسؤولين في لبنان ان يبادروا وقبل فوات الأوان وقبل ان تكرّس حقوق لـ “إسرائيل” بالأمر الواقع، أن يبادروا الى سحب المرسوم 6433/ 2011 من الأمم المتحدة وإذا أمكن أيضاً إيداع الأمم المتحدة مرسوماً مصحّحاً يعتمد الخط 29 كما رسمه ويعتمده الوفد اللبناني، وأن يوجهوا إنذاراً الى “إسرائيل” عبر الأمم المتحدة بأنّ أيّ مسّ بالمناطق المتنازع عليها قبل بتّ النزاع يجبر لبنان على اللجوء الى كلّ الوسائل المتاحة لحماية حقوقه ومنع تكريس الأمر الواقع عليها، وانّ أيّ تلكّؤ او مماطلة هنا يشكل جريمة بحق لبنان وهدراً لحقوقه وتنازلاً تستفيد منه “إسرائيل” لتكريس الأمر الواقع لصالحها.

أما الانتظار لحلّ مسائل أخرى من قبيل تشكيل ​الحكومة​ او إعلان حياد لبنان والأدهى والأمرّ الانتظار حتى ينعقد ​مؤتمر​ دولي للبحث في واقع لبنان ومصيره، فكلها ذرائع واهية تشكل في بعضها تشتيتاً للجهد وهدراً للوقت، وتمنح العدو فرصة في قضم او اقتطاع او ابتلاع حقوق لبنانية في البر والبحر فضلاً عن الفضاء.

ف​تشكيل الحكومة​ كما يبدو في الظاهر واقع بين متعاكسين داخليين، موقف ​رئيس الجمهورية​ المتمسك ب​الدستور​ وغير القابل للتنازل عن الصلاحيات الدستورية والحقوق التي يمنحها الدستور للطوائف عامة ولطائفة الرئيس خاصة، وموقف رئيس الحكومة المكلف المنطلق من تفسير خاطئ للمبادرة الفرنسية، والمبني على القول بأنّ الفرصة مؤاتيه له اليوم ليشكل مجلس إدارة برئاسته يحكم به لبنان بعد إقصاء الجميع إلا من كان في ​السياسة​ سنداً ومؤيداً لا بل حاضناً له ولأبيه خلال السنوات الـ 30 الماضية، هذا هو الظاهر الموحى به، أما الحقيقة فهي انّ رئيس الحكومة المكلف يريد حكومة تمنع التدقيق الجنائي وتستجيب لمطالب ​أميركا​ في ​الحدود البحرية​ ويدفع عبرها للسعودية ثمن رضاها عنه، الرضى الذي لن يناله إلا بإقصاء أطراف تفاهم ​مار مخايل​ بشكل كليّ وجذريّ عن الحكم وتهيئة البيئة لممارسة اقصى الضغوط على المقاومة من أجل تعطيل فعلها وفعاليتها في لبنان والإقليم. وسيبقى تشكيل الحكومة معلقاً ومؤجلاً الى أن يتراجع ​الحريري​ ويدرك أنه لن ينال الاستئثار بحكم لبنان، ولن يطوّق المقاومة، ولن يستطيع ان يقدّم لبنان هدية للسعودية، فلا حكومة مع ظنون جوفاء ولا حكومة مع تجاوز الدستور. وستكون هناك حكومة في ساعات عندما يتراجع الحريري ومَن معه ومن خلفه عن أوهامهم.

أما عن الحياد والمؤتمر الدولي إلخ … قد تكون هذه الأفكار والآراء صالحة للاستهلاك المحلي في إطار الترف الفكري في زمن الرخاء و​الصحة​ و​الأمن​ والاستقرار، أما في الوقت الذي نعيش فإنّ أقلّ ما يُقال فيها بانها منفصلة عن الواقع وأن من يطرحها يرى من الدائرة قطاعاً ضيقاً او زاوية لا تكاد تغطي ربعها، فللمؤتمر الدولي والحياد شروط وأسباب لا يتحقق منها اليوم في الواقع اللبناني الا القليل القليل البسيط، ثم أي قوى دولية نريد أن نسلمها أمر لبنان؟ هل هي تلك القوى التي قسّمت فلسطين؟ أم التي شتتت ودمّرت يوغوسلافيا؟ أم التي أجهزت على ​الدولة​ الليبية؟ أم القوى التي تمارس الهيمنة على ​العالم​؟ أم تلك القوى التي ترتكب الجرائم وتلصقها بالمقاومة لإخراجها من خنادق الدفاع عن لبنان؟

يكفي لبنان مآسي وآلاماً، ويكفي لبنان هدراً للوقت والثروات، ولننصرف الى ترتيب شؤوننا بالقدر المستطاع، مع وجوب معرفة حقائق لا يمكن أن يتخطاها العاقل أهمّها أنّ زمن القرار الدولي النافذ بحق لبنان رغماً عن إرادة الأكثرية الساحقة فيه هو زمن ولى، وأنّ زمن تجاوز قوة لبنان التي تؤمّنها مقاومته زمن لن يعود، وأنّ زمن رسم الخرائط السياسية او الأمنية او العسكرية لفرضها على اللبنانيين هو زمن منتج للمتاعب ولا يحقق لأصحابه آمالهم وأهدافهم.

أما الحلّ فإنه لا يكون إلا في الداخل ومن ينتظر قرارات الخارج فإنه سينتظر كثيراً. ثم يرى الحق والثروة تضيع وتسقط إمكانية الاستعادة والاستفادة.