الحياةُ معَ يسوعَ اكتشافٌ. لقد قال عن نفسِه "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ" (يوحنا ٩:١٤). فهو لا يُضَيِّعُ الوقتَ سدىً، وهو في حركَةِ اصطيادٍ دائِمةٍ للمَلكوت. يرمي شِباكَهُ أينَما وُجِد. همُّهُ خلاصُ النّاسِ، وهكذا يُريدُنا أن نَكون.

الضَّميرُ "هو" يرمُزُ إلى إنسانٍ ما في كُلِّ اللّغات، أمّا في لُغَةِ الكِتابِ المُقَدَّسِ فهوَ "المُخلِّصُ" الرَّبُّ القديرُ الّذي طأطأ السَّماواتِ ونزَلَ لِخَلاصِنا، والّذي ظَهَرَ للأنبياءِ قَديمًا، وكَلَّمَهم وتَجَسَّدَ وصارَ إنسانًا، والّذي قَالَ بِصَريحِ العِبارَة "أنا هو".

هَوَ الّذي قَالَت لَهُ السَّامِريَّةُ "أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ"، فأجابها: "أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ". (يوحنا ٢٥:٤-٢٦)، وقال لليهودِ "مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ"(يوحنا ٢٨:٨)، وأجابَ رئيسَ كهنَةِ اليَهودِ "أَنَا هُوَ"، عِندمَا سأله: "أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ"؟(مرقس ٦١:١٤-٦٢).

ومَن يَتَمعَّنُ بِتَجوالِ يَسوعَ مَعَ تلامِيذِهِ، يَكتَشِفُ أنَّهُ كان يَرسُمُ لهم ولنا طريقًا الذي "هو"، بِحيثُ وَضعَ قَواعدَ الاصطيادِ المَلَكُوتيّ في البَحثِ عنِ الآخَر.

هنا يَحضُرُني حِوارٌ مِن تَاريخِنا المُعاصِرِ، صُنِّفَ بينَ الحِوارَاتِ النَّمُوذَجيَّةِ، وقد دارَ بينَ الأبِ "بيار" الفَرنسيّ(١٩١٢-٢٠٠٧) مُؤَسِّسِ جمعيَّةِ عِمّاوس Emmaus، والّذي كان نائبًا في البَرلمانِ الفَرنسيّ قبلَ أن يُقَدِّمَ استِقالَتَهُ لِيَتَكَرَّسَ أكثرَ لِخدمةِ ​الإنسان​، والوزيرِ الفَرنسيّ السَّابِقِ "برنارد كوشنير" Bernard Kouchner (مواليد ١٩٣٩م) المُلحدِ والّذي أسَّسَ جمعيّتَي "أطبَّاءَ بِلا حُدود" و"أطبَّاء العالَم".

كِلاهُما كان مِن تَفكيرٍ مُختَلِفٍ تمامًا، وبِالرُّغمِ مِن هذا جَمَعَتْهُما أَسمى خِدمةٍ في العالَم، وهي الإنسانُ الآخَر.

كان الأب بيار يَنظُرُ إلى الإنسانِ بِأنَّهُ ابنُ اللهِ بِالتَّبنِّي مَهما وقعَ في الشُّرور، وقد فَداهُ الرَّبُّ على الصَّليب، بَينما كانَ كُوشنير يَعتَبِرُ أنَّ الإنسانَ، في الكثيرِ مِنَ الأحيانِ، وحشٌ مُفتَرِسٌ للإنسانِ الآخَر، وبِخاصَّةٍ أنَّهُ تَعاطى الشَّأنَ الخَارِجيّ وتَنقَّلَ بينَ أسيا وأفرِيقيا.

كان فَارِقُ العُمرِ بَينَ المُتحاوِرَين حوالى الـ ٢٨ سَنةً، ولكنَّ حِوارَهُما كان لِجَميعِ الأَجيال، ويتميَّزُ بِخُلاصَةٍ رائعَةٍ وهِي أنَّ الإنسانَ ما دامت فيه نَسَمةُ حياةٍ سيَظَلُّ يَبحَثُ عنِ الإنسَانِ الآخَر، المَريضِ والمُحتاجِ والمَرذُول.

فَكانَ الأبُ بيار يُؤَكِّدُ أنَّ المَحبَّةَ مَصدرُها وَاحِدٌ "إلهيّ"، وإذا فقَدَها الإنسانُ فقدَ إنسانيّتَه. وَكانَ "برنارد" يُصغِي بِشَغَفٍ كبيرٍ ويَتَفَرَّسُ في وَجهِ مُحَدِّثِهِ الّذي كانَ يَشرَحُ بانفِعَالٍ كَبيرٍ وحَمَاسٍ لافِت.

وتَابَعَ الأَبُ، لِنَعِ كيفَ نَعيشُ إنسانِيَّتَنا الحَقِيقِيَّةَ الّتي شَوَّهَتها الخَطِيئَةُ وهَدَّمَها البُغض. "هو" النَّمُوذَجُ الأَوَّلُ والأَخير، ولا يُمكِنُ لإنسانِيَّةٍ مُثْلى أن تَغُضَّ النَّظرَ عن أيّ صَرخَةِ استِغَاثَة، لأنَّ إنسانِيَّتَنا لَيستْ قَومِيَّةً ولا عِرقِيَّة ولا مَذهَبِيَّة ولا أيَّ شيءٍ آخَر، وإنّما جُذُورُها فَوقُ في السَّماء.

وختَمَ بالقولِ إنَّ ما يَجِبُ أن نُبغِضَهُ هُوَ الخَطيئةُ وليس الإنسانَ، فكيفَ لنا أن نَكرَهَ إنسَانًا أو نَرذُلَهُ، ويَسوعُ تَجَسَّدَ مِن أجلِهِ؟.

فكانَ جوابُ كُوشنِير رائعًا، إذ قالَ: "كَم أُحِبُّ غَضَبَك" Comme j’aime ta colère! .

ويَستخلِصُ القَارئُ مِن حِوارِهِما نقاطًا ثلاث كَأساسٍ لِعمَلِهِما: النيَّةُ والتِّقَنِيَّةُ والنَّتيجَة Obligation de l'intention, de la technique et du résultat.

هذهِ النِّقاطُ تَضعُنا أَمامَ مَسؤُوليَّةٍ كَبيرَةٍ في عَملِنَا البِشاريّ وعلاقَتِنا بِالآخَر، لأنَّها تَكشِفُ مَسيرتَنَا وتُعَرِّينا بِالكامِلِ أمامَ الدَّيَّانِ العَادِل.

ما هِيَ نِيَّتُنا في كُلِّ عَمَلٍ نَقومُ بِه؟ مَا هِيَ أهدافُنا؟ ما هِيَ مَقاصِدُنا؟ مَاذا نُريد؟ بِماذا يَلهَجُ قلبُنا ومَا الّذي يَشغَلُ بَالَنا؟ عمَّ نَبحَثُ ومَا الّذي نَنوي تَحقِيقَه؟ ويَقولُ القِدِّيسُ مَكسيموسُ المُعتَرِفُ في هذا السّياق: "لَيسَ المُهِمُّ أن نَعمَلَ، بَل لِمَن نَعمَل".

وهَل تِقَنيَّاتُنا الّتي نَعتَمِدُها تَتوافَقُ وتِقَنيَّةَ الرَّب؟ مَاذا تُخفِي في طَيَّاتِها؟ لأنَّ النَّتيجَةَ واحِدة: "مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ"(متى ١٦:٧).

في هذا الأحدِ نَقرَأُ لِقاءَ الرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ بِالمَرأةِ الكَنعانِيَّةِ (متّى ٢١:١٥-٢٨). اللّقاءُ هَذا مَحطَّةٌ مُهِمَّةٌ في طَريقِ الخَلاص. فَنِيَّةُ الرَّبِّ خَلاصُ تلكَ المرأةِ، وتِقَنِيَّتُهُ المَحبَّةُ والنَّتيجةُ شِفاءُ ابنَتِها. ولَكِن هَل هَذا كَانَ حَالَ التَّلاميذِ أيضًا، الّذينَ قالُوا "اصْرِفْهَا، لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا"؟!.

كَم مِن مَرَّةٍ نُماثِلُهم، فنسعى لاحتِكارِ الخَلاصِ لأَنفُسِنا، ونَحصُرُ المَجدَ لِذاتِنا؟ كم مِن مَرَّةٍ نَغفُلُ عن أنَّ خَلاصَ الآخَرِينَ هُوَ خَلاصُنا؟.

المُخلِّصُ هُوَ الفَلّاحُ الّذي يُريدُ أن يَفلَحَ كُلَّ أرضٍ لَتُنبِتَ ثِمارًا، وهذا ما قَالَهُ يَعقُوبُ الرَّسول: "فَتَأَنَّوْا أَيُّهَا الإِخْوَةُ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ. هُوَذَا الْفَلاَحُ يَنْتَظِرُ ثَمَرَ الأَرْضِ الثَّمِينَ، مُتَأَنِّيًا عَلَيْهِ حَتَّى يَنَالَ الْمَطَرَ الْمُبَكِّرَ وَالْمُتَأَخِّرَ." (يع ٧:٥).

في ذلكَ الوقتِ لم يَكُن نُمُوُّ التَّلاميذِ الرُّوحيّ قد اكتَمَلَ بَعد، ولَكِن بَعدَ حُلولِ الرُّوحِ القُدُسِ عَلَيهم، تَحرَّرُوا مِنَ القُيودِ القَومِيَّةِ المُكَبِّلَةِ، فَهَبُّوا يَشُقُّونَ الطُّرقاتِ لِيَربِطُوها بِطَريقِ الخَلاص.

فَلنُصَلِّ معَ القِدّيسِ سلوانَ الآثُوسيّ الَذي قال: "أُصلِّي يا ربُّ لِكَي تَعرِفَكَ كُلُّ الأُمَمِ وتَعرِفَ خَلاصَك". عِندَئِذٍ يَكُونُ فرحُنا كَامِلًا فَنُنشِدُ: طَريقُ خَلاصِنا "هُو" ولا أَحَدَ غيرَه.