تَناقَلَتِ الأجيالُ قِصَّةَ آدَمَ وحَوَّاء وما زَالَت. قِيل عنها الكَثيرُ، ورُسِمَت بِلوحَاتٍ زَيتيَّةٍ عَديدة ورائعَة، وقد تَكونُ مِن أجمَلِها لَوحَةُ Le Dominiquin مِن أوائِلِ القَرنِ السَّابِعَ عَشَرَ، والمَوجُودةُ في مَتحفِ Grenoble في ​فرنسا​، حَيثُ يَظهَرُ اللهُ في السَّماءِ مُحاطًا بِالمَلائِكَةِ، رافِعًا إصبَعَهُ مُؤنِّبًا آدمَ وحَوَّاءَ لِعِصيانِهِما وَصيَّتَه، بينما يُشيرُ آدمُ إلى حَوّاءَ كَأنَّهُ يَقولُ هِيَ السَّببُ وليسَ أنا.

أليسَ هذا مَا نفعلُهُ دَائِمًا، فَنُحاوِلُ التَّملُّصَ بِرَمي الذَّنبِ عَلى الآخَرِينَ لِتبرِئَةِ أنفُسِنَا؟.

وهُناكَ شَيءٌ لافتٌ في حَركَةِ المَلاكَين أعلى اللّوحَةِ، بِحَيثُ يُشيرُ الأوَّلُ بِإصبَعِهِ إلى الخَاطِئينَ الأوَّلَين بِحركةٍ تُترجِم فَداحَةَ العِصيان وهُوَ يَنظُرُ إلى زَميلِهِ المَلاكِ الثّاني الّذي يَضعُ إصبَعَهُ على فَمِهِ كَأنَّهُ بِذَلِكَ يُشيرُ إلى تَجَسُّدِ ابنِ اللهِ الّذي سيَفدِي البَشريَّةَ ويَستُرُ عُريَ خَطايانَا.

هُناكَ مَن أَخَذَ هذهِ القِصَّةَ بِحَرفِيَّتِها، وهناكَ مَن تَوقّفَ عِندَ رَمزِيَّتِها. يَبقى الغَوصُ في معاني هذه القِصَّةِ يُعطي ثمارًا شهيَّةً للأكلِ بغضِّ النظر عن المَوقِفِ منها، وها هُوَ القدّيسُ دَيديموس الضَّريرُ(٣١٣-٣٩٨م) يَشرَحُ عنها بِإسهابٍ مُعتَبِرًا إيَّاها قِصَّةَ كُلِّ إنسانٍ في هَذا الكَون.

ولِأهميَّتِها يَأتي الأحَدُ الرَّابعُ مِن فَترةِ التَّهيئَةِ في زَمنِ التّريودي، لِيكونَ ذِكرى طَردِ آدَمَ وحَوّاءَ، بِالإضَافَةِ إلى أنَّهُ أحدُ الغُفرانِ وأَحدُ مَرفَعِ البَياض.

ثلاثةُ أمورِ تَستوقِفُنا في هَذِهِ القِصّة: الجَنَّةُ، العِصيانُ والخَطيئَة، السُّقوطُ ووعدُ الخَلاص.

نَقرأُ في سِفرِ التّكوين "وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ"(تك ٨:٢).

كَلِمةُ "عَدْن" مُشتَقَّةٌ مِنَ اللّغَةِ العِبريَّةِ، وتَعني بَهجَة. هَذا مُرادُهُ أنَّ اللهَ أرادَ بِخلقِ الإنسانِ أن نَكُونَ فَرِحينَ، مَملوئِينَ بِالنِّعَمِ والبَهجَة، كيف لا وجَدّانا الأوَّلان كانا يَنظُرانِ وَجهَ اللهِ ويَتَنَعَّمانِ بِنُورِه. وهذا تَمامًا ما نُصَلّيه: "لِيتَرأفِ اللهُ عَلَينا ويبارِكْنا، ويُضئْ وجهُهُ علينا ويَرحَمْنا".

يُقدِّمُ الرَّبُّ الإلهُ في وَصِيَّتِهِ لآدَمَ «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ» (تكوين ٢: ١٦-١٧)، طَريقَ خَلاصٍ لِكُلِّ البَشرِيَّة.

خالِقُنا يُريدُنا أن نَعرِفَهُ هُوَ ولَيسَ الشَّر.

وَلِحُسنِ فَهمِ رُموزِ العَهدِ القَديمِ ونُبوءاتِهِ نقرأه من الخاتمة إلى البداية، أي نُطالِعُهُ على ضَوءِ العَهدِ الجَديد.

فنَجِدُ هُنا مَثَلًا أنَّ اللهَ قَدَّمَ لنا ذَاتَهُ لِنأكُلُهُ ويَدخُلَ إلى جَوفِنا ونَتَّحِدَ بِهِ فَنَحيا ولا نمُوت. لِذا قالَ لَنا "مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ" (يوحنا ٥٤:٦). ولِهذا رَمَزٌ في بِدايَاتِ سِفرِ التّكوين "شَجَرَةُ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّة"(تك٩:٢).

​​​​​​​

مِن جِهَةٍ أُخرى، فِعلُ المَعرِفَةِ يَعني المُعاشَرَة، ومُعاشَرَةُ الشَّر تُولِّدُ مَوتًا.

وهذا مَا حَصَل، فبِمُجرَّدِ أن عَاشَرَ آدَمُ وحَوَّاءُ الشَّرَّ، وَجَدا نفسَيهِما عُريانَين مِنَ النِّعمةِ الإلَهِيَّةِ، وهَرَبا مِن وَجهِ الله. فبَعدَ أن كانَ أليفَهُما، نَراهُما يَختَبِئَانِ "مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ". ولكنَّ مَحبَّةَ الرَّبِّ اللّامُتنَاهِيةَ لَم تَسمحْ أَن تَموتَ صُورَةُ اللهِ فِيهِما مَعَ أنَّها أُظلَمت، فَكَانَ وَعدُ اللهِ مِن خِلالِ حَوّاءَ للبَشَرِيَّةِ جَمعَاءَ أنَّ هُناكَ مَن سَيأتي مِن نَسلِها و"يَسحَقُ رأسَ الحَيَّة"، ألا وهُوَ الرَّبُّ يَسوعُ المَسيح. فكانَ بَعدَ سُقوطِهِما وخُروجِهِما مِنَ الجَنَّةِ أن أتَى إلينا المُخَلِّصُ وتَحقَّقَ الوَعد.

رَمزِيًّا أُشيرَ إلى الشَّرِّ بِالتُّفاحةِ، وأَصبحَ الأمرُ شائعًا كِتابَةً ورَسمًا. وهذا يَعودُ إلى أنَّ كَلِمَتَي "شرّ" و"شَجرةَ التُّفَّاح" في اللّغةِ اللّاتِينيّة، هي نفسُها .Malus وتُرسَمُ التُّفّاحَةُ جَميلةً جِدًّا ارتِباطًا بِما وَرَدَ في الآيَةِ "فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ".

نَعَم، الخَطيئَةُ تُغري دائمًا ظاهريًّا، في حِين أنَّها مُرَّةٌ مِنَ الدَّاخِل. فَعِوَضَ أن يكونَ حُضورُ اللهِ بَهجةَ عُيونِهم، أصبَحَ نَظرُهُما ومُشتهاهُما ثِمارَ الشّيطانِ الكَاذِبَةَ والخَدَّاعَة.

والقِصَّةُ لا تَنتهي هُنا، فَقارِئُ الكِتابِ المُقَدَّسِ يُدرِكُ تَمامًا بِأنَّهُ عَلى مَوعِدٍ مَعَ شَجرةِ الحَياةِ الّتي كانَت في وَسَطِ الجَنَّةِ، وأنَّ آدَمَ وحَوّاءَ أغمَضا أَعيُنَهُما عَنها. إذ يَختُمُ سِفرُ الرّؤيا على شَجَرَةِ حَيَاةٍ في وَسَطِ أُورَشليمَ "تَصْنَعُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ثَمَرَةً، وَتُعْطِي كُلَّ شَهْرٍ ثَمَرَهَا، وَوَرَقُ الشَّجَرَةِ لِشِفَاءِ الأُمَمِ"(رؤ٢:٢٢).

وهَكذا يَكُونُ اللهُ في كِتابِهِ العَزيزِ يَسِيرُ مَعَنا خُطوةً خُطوةً مِنَ الصَّفحَةِ الأُولى مِنهُ إلى آخِرِ آياتِهِ، لِنَأكُلَ مِن ثَمَرَةِ شَجرَةِ الحَياةِ، بَعد أن انتَشَلَنا الفَادِي مِن أسَفلِ دَرَكَاتِ الجَحيمِ، لِنحيا مَعَهُ في بَهجَةٍ لا تَنتَهي، ونُورٍ لا يَسُودُهُ ظَلامٌ، إنْ قَبِلنَا خَلاصَ الرَّبِّ وفداءَهُ المَجّاني. وهَكَذا نَبدأُ صَومَنا المُبارَكَ. إلى الرَّبِّ نَطلُب.