في تشرين الأوّل 2020 بدأت مُفاوضات ترسيم الحدودالبحريّة المُتنازع عليها، وبعد توقّف لأشهر طويلة، أعادت ​واشنطن​ الجانبين ال​لبنان​ي وال​إسرائيل​ي إلى طاولة المُفاوضات. فهل من المُمكن هذه المرّة التوصّل إلى تسوية ما، أم أنّ لبنان سيفقد المزيد من الوقت الثمين، علمًا أنّه في أمسّ الحاجة لبدء العكس العكسي لإستخراج ​النفط والغاز​، وبالتالي لتأمين عائدات ماليّة قد تُشكّل حبل نجاته في المُستقبل؟!.

بداية لا بُدّ من التذكير أنّ ملف إستخراج الثروات النفطيّة والغازيّة من بحرنا قد طال أمده كثيرًا، حيث أنّ هذه الآمال بمُستقبل أفضل كانت بدأت في العام 2013، وتحديدًا في 28 آذار عندما جرى الإعلان عن أسماء 52 شركة تأهّلت للمُشاركة في دورة التنقيب الأولى في المياه الإقليميّة اللبنانيّة. وكانت الآمال كبيرة بتحقيق لبنان عائدات ضخمة من ثروته النفطيّة والغازيّة، خاصة وأنّ سعر برميل النفط كان في ذروته في تلك الفترة، وتحديدًا بحدود المئة دولار أميركي للبرميل. لكن مع مُرور الوقت ظهرت العراقيل الداخليّة والخارجيّة، ودخل الملف النفطي مرحلة المُراوحة لسنوات عدّة(1). ومع مُعاودة المُفاوضات هذا الأسبوع بتدخّل أميركي مُباشر، يُوجد أمل بكسر الجمود المُسيطر على هذا الملفّ، لأكثر من سبب، أبرزها:

أوّلاً: الإدارة الأميركيّة الجديدة تبحث عن إنجازات خارجيّة لها، وهذه الإدارة قد تكون أقلّ تشدّدًا إزاء الطروحات اللبنانيّة مُقارنة بالإدارة السابقة، مع تقديمها في الحالين مصلحة حليفها الإسرائيلي الإستراتيجي بطبيعة الحال.

ثانيًا: الوسيط الأميركي جون ديروشيه يحمل هذه المرّة طُروحات تسوية وسطيّة في يد، وضُغوطًا ميدانيّة في يد أخرى تتمثّل ببلوغ إسرائيل مرحلة إستخراج النفط والغاز في أكثر من حقل، ومنها الحقول الحدوديّة مع لبنان، بينما هذا الأخير لم يبدأ مرحلة التنقيب هناك بعد! وبالتالي، كل يوم يمرّ يمثّل خسارة مُضاعفة للبنان، وكسبًا غير مُباشر لإسرائيل.

ثالثًا: إسرائيل إكتشفت كميّات غاز كبيرة في حقل "كريش" ومحيطه، وإذا كان صحيحًا أنّ هذا الواقع فتح شهيّة الإسرائيليّين على مُحاولة قضم أكبر مساحة جغرافيّة مُمكنة على مُستوى الحدود البحريّة مع لبنان، فإنّ الأصحّ أنّها تريد إزالة أيّ عراقيل قانونيّة، وأي مخاطر من شأنها أن تُبعد ​شركات النفط​ العالميّة، للإنطلاق سريعًا بعمليّات الإستخراج والبيع. وهذا يعني أنّها قد تكون مُستعدّة للتنازل جزئيًا ظاهريًا، على أن تكون ضُمنيًا تسعى لأن تسبق لبنان في إستخراج كل المُشتقّات النفطيّة الحُدوديّة، علمًا أنّ الإسرائيليّين يُراهنون أيضًا على الإنقسام الداخلي اللبناني.

رابعًا: إنّ لبنان الذي كان رفع سقف مطالبه في المرحلة الماضية، مُطالبًا بالخط 29، الذي يضيف 2260 كيلومترًا مربّعًا على المساحة المُصنّفة ضُمن حُدوده البحريّة حاليًا، قد يكون جاهزًا للقيام بخطوة إلى الوراء، والإكتفاء بكسب مساحة بحريّة أقلّ، على أن يفتح هذا الأمر باب التنقيب سريعًا، ويزيل كل العقبات القانونيّة والمَخاطر الأمنيّة التي كانت لا تزال تحول دون أن تبدأ الشركات العالميّة أعمالها. إشارة إلى أنّ المسألة لا ترتبط بأرقام وبخطوط بحريّة نظريّة، بقدر ما هي مُرتبطة بمساحات جغرافية ذات فائدة إقتصاديّة وأخرى غير مُفيدة، بحيث على الجانب اللبناني حُسن الإختيار.

خامسًا: الوفد اللبناني ينتظر جولة التفاوض الجديدة، ليعود ويرفع مطالب واضحة تعيد الإعتبار إلى مصداقية لبنان بعد بلبلة في الخرائط وفي المطالبات، كانت بدأت مع الإتفاق مع قبرص في العام 2007(2)، وتواصلتمع تكليف لجنة مُتخصّصة بتحديد الحُدود، حيث قام لبنان في تموز 2019 بإبلاغ الأمم المُتحدة بحدوده على أساس الخط 23(3)، قبل أن تتبنّى مصلحة الهيدروغرافيا في ​الجيش اللبناني​ دراسةللعقيد الركن البحري مازن بصبوص(4)، وترسم الخط اللبناني الجديد رقم 29 في كانون الأوّل من العام 2018، من دون أن يتمّ توقيعه وتبنّيه بشكل رسمي واضح وشامل بعد.

في الخُلاصة، للولايات المُتحدة الأميركيّة إعتباراتها ومصالحها، ولإسرائيل أطماعها وأهدافها، وعلى لبنان أن يكون يقظًا للمُرور في حقل الألغام. والمُهم أن يكون الوفد اللبناني المُفاوض مَدعومًا بموقف لبناني سياسي واحد ومُوحّد، لأنّ واشنطن وتل أبيب تراهنان على الإنقسام اللبناني، وخُصوصًا على أن يُقدّم لبنان تنازلات ميدانيّة على طاولة مُفاوضات الترسيم في مُقابل مكاسب سياسيّة وحزبيّة ضيّقة. فكيف ستسير جولة التفاوض الجديدة؟ الأيّام القليلة المُقبلة ستحمل الإجابات الشافية...

(1) في 14 كانون الثاني 2018، تمّ الإعلان عن فوز تكتّل شركات "​توتال​" و"ايني" و"نوفاتيك" بمزايدة التنقيب في الرقعتين رقم 4 ورقم 9 اللتين إختارهما لبنان لبداية عمليّات إستخراج النفط والغاز.

(2) في كانون الثاني 2007، وقّع لبنان إتفاقًا مع قبرص قضى بترسيم حُدود المنطقة الإقتصاديّة الخالصة لكلا البلدين، وجرى تحديد الحدود البحريّة ما بين النقطة الرقم 1 جنوبًا والنقطة رقم 6 شمالاً، لكن بشكل غير نهائي، في إنتظار حسم الترسيم مع كل من إسرائيل و​سوريا​ أيضًا. إشارة إلى أنّ إسرائيل إستغلّت الأمر، وسارعت إلى رسم حدودها البحرية إنطلاقًا من الخط الذي حددّه لبنان مع قبرص.

(3) في كانون الثاني 2011 أصدر مجلس الوزراء اللبناني المرسوم المَشهور رقم 6433 مثبتًا حدوده من طرف واحد. وصارت المساحة الفاصلة بين الخطين 1 و23 والتي تبلغ مساحتها 860 كيلومترًا مربّعًا، منطقة مُتنازع عليها مع إسرائيل.

(4) تبيّن أنّ من حق لبنان مساحة تزيد على 1400 كيلومتر مربّع، إضافة إلى مساحة 860 كيلومترًا مربًعا المُتنازع عليها.