فيما يستمرّ البحث بعقدة "الوزيرين المسيحيَّين"، التي صُوّرت في الأيام الأخيرة وكأنّها "عقدة العقد" في ملف ​تأليف الحكومة​، طفت إلى الواجهة ما قيل إنّها "عقدة" قديمة جديدة، تتمثّل برفض "​التيار الوطني الحر​"، ممثَّلاً برئيسه الوزير السابق ​جبران باسيل​، منح ما يصفها بـ"ثقة مجانية" للتشكيلة الموعودة، وقبل أن تبصر النور.

وتشير المُعطيات في هذا الإطار إلى أنّ رئيس الحكومة المكلَّف ​سعد الحريري​ أبلَغ الوسطاء صراحةً بأنّ جوابه على كلّ الطروحات التي تُقدَّم له "مرهونٌ" بهذه "الثقة"، بل ذهب أبعد من ذلك ليقول إنّ إصرار باسيل على عدم منح الحكومة الثقة يقلّص تلقائيًا حصّة رئيس الجمهورية إلى ثلاثة وزراء، أسوةً بالحكومات السابقة.

وإذ يوحي المقرّبون من الحريري أنّ ما يريده باسيل هو أن "يتنازل" رئيس الحكومة المكلّف ويقبل الجلوس معه، يشدّدون على عدم جواز أن "يفاوض" باسيل على الشاردة والواردة في حصّة رئيس الجمهورية، الذي يُحسَب عليه، والتي تخطّت ثمانية وزراء، ثمّ يرفض بكلّ بساطة منح الحكومة الثقة بذريعة أنّها لا تلبّي تطلّعاته.

لكن، إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يرفض باسيل منح "ثقته" للحكومة، طالما أنّه "ضمن" تمثيله فيها، ولو بشكل غير مباشر؟ هل يعود ذلك لأسباب "مبدئيّة" فعلاً، أم أنّه مرتبط بـ"التوتر" مع الحريري، وينطوي بالتالي على محاولة لـ"إحراج" رئيس الحكومة، المُفتقِد لمظلّة دعم ثقيلة على الساحة المسيحية، في ضوء إعلان "​القوات اللبنانية​" معارضتها لحكومته؟.

الشراكة برسم "المقايضة"؟!

بالنسبة إلى المحسوبين على تيار "المستقبل" والمقرّبين من رئيسه، فإنّ لا تفسير لأداء الوزير السابق جبران باسيل في هذا السياق، إلا باعتباره محاولة "ابتزاز" للحريري، الذي يرفض أيّ شكلٍ من التواصل معه منذ تكليفه، رغم "حاجته" إليه، انطلاقًا من أنّ غياب الدعم المسيحيّ في ​مجلس النواب​ لحكومته، سيُفقِدها جانبًا كبيرًا من الميثاقية التي ينشدها "الشيخ سعد".

لكنّ هذا التفسير لا يعفي باسيل وفريقه من المسؤولية، بحسب "المستقبليّين"، الذين يسألون كيف يمكن لمن يتباهى بأنّه من "يؤلّف" الحكومة، أن يحجب الثقة في النهاية عن تشكيلتها النهائية. ويرى هؤلاء أنّ حصّة رئيس الجمهورية، التي كان عون يرفضها للمفارقة يوم لم يكن رئيسًا، لا تتجاوز من حيث المبدأ الوزراء الثلاثة، ما يعني أنّ تمسّك باسيل بـ"بدعة" رفض المشاركة، والفصل بينه وبين الرئيس، لا تتيح له الحصول على حصّة من أكثر من ثمانية وزراء.

لكنّ هذا المنطق يبدو "مُستهجَنًا" وأكثر، برأي "العونيّين"، الذين يستغربون كيف أنّ الحريري يرتضي إخضاع مبدأ "الشراكة" لفكرة "المقايضة" هذه، خصوصًا أنّ دور رئيس الجمهورية بوصفه شريكًا أساسيًا وجوهريًا في عملية تأليف الحكومة ليس وجهة نظر، بل جزءٌ لا يتجزّأ من ​الدستور​ الذي لا ينفكّ رئيس الحكومة المكلّف عن تأكيد التمسّك به ورفض المسّ به بأيّ شكلٍ من الأشكال، رغم أنّه ليس "مقدَّسًا".

وإلى الاستهجان، يتساءل "العونيون" بكلّ براءة، عن الجهة "المؤهّلة" وفق منطق الحريري هذا، تسمية الوزراء المسيحيّين، إذا كان يريد حجب هذا الحقّ عن رئيس الجمهورية، في حين أنّ الكتلتين المسيحيتين الأكبر، أي "​لبنان القوي​" و"​الجمهورية القوية​"، أعلنتا سلفًا مقاطعة الحكومة بالمُطلَق. ويشدّدون على أنّ المطلوب من رئيس الحكومة المكلَّف الإقلاع عن هذه "العنتريات"، والكفّ عن اختراع "العُقَد"، كلما لاح في الأفق حلّ للعقدة التي تُصوَّر قبل ذلك وكأنّها الحائل الوحيد دون تأليف الحكومة.

البرنامج أولاً!

يرفض "العونيّون" ما يقوله الحريري عن محاولة "ابتزاز" يقوم بها باسيل لفرض "التواصل" معه على "أجندة" الأخير، بعدما اختار أن "يعزله" منذ اليوم الأول لتكليفه، رافضًا عقد أيّ لقاء معه، متمسّكًا بمقولة إنّه صاحب "الحقّ الحصري" بتأليف الحكومة، بالتفاهم والتنسيق مع رئيس الجمهورية، من دون أيّ شريك آخر.

يوضحون أنّ هذه "العزلة" غير موجودة سوى في "خيال" البعض، علمًا أنّ وساطات الساعات الأخيرة أعادت لباسيل حيثيّته ودوره، حيث تبيّن بوضوح أنّ لا حكومة يمكن أن تبصر النور من دون المرور بـ"قناة" باسيل، إن جاز التعبير، وهو ما يفسّر اللقاءات "المفتوحة" التي يعقدها "الخليلان" بين ​البياضة​ و​بيت الوسط​، في ما يمكن اعتباره "حوارًا غير مباشر" يدور بين الحريري وباسيل أصلاً.

لكنّ اشتراك باسيل في مهمّة "تسهيل" تأليف الحكومة، عبر إبداء أقصى ما يستطيع من "ليونة ومرونة"، كما تقول أوساطه، لا يعني "رضاه" الكامل عن الحكومة أو "مباركته" لها من دون الحدّ الأدنى من النقاش، علمًا أنّ "التيار الوطني الحر" ليس ممثَّلاً في الحكومة بصورة مباشرة، انطلاقًا من الشرط الذي وضعه الحريري منذ اليوم الأول، حاصرًا أعضاء حكومته في "الاختصاصيّين غير الحزبيّين"، رغم أنّه في المقام الأول لا يلبّي هذا الشرط.

وإذا كان هناك من يحاول إقناع باسيل بمنح الثقة للحكومة، باعتبار أنّ هذه الثقة لا تُعطى لشخص رئيس الحكومة وإنما للحكومة ككلّ، ولبرنامجها، يعتبر "العونيّون" أنّ هذه العبارة بالتحديد تختزل "لبّ الموضوع"، إذ كيف يُطلَب منه أن يمنح الثقة لحكومة لم يتّضح برنامجها بعد. ويشيرون إلى وجود "هواجس" كثيرة لدى الفريق "العونيّ" من "أجندة" الحريري، خصوصًا أنّ باسيل سبق أن دعا الحريري لأخذ الحكومة بالكامل، مقابل تطبيق مشروعه الإصلاحيّ، وهو ما لم يلقَ جوابًا عليه حتى اليوم.

بحث عن "عُقَد"؟!

عمومًا، وبمُعزَلٍ عن كلّ ما تقدّم، ثمّة من يسأل عن الأسباب الموضوعيّة التي تدفع لتحويل مسألة "منح الثقة" لحكومةٍ ما لعُقدةٍ تحول دون ولادتها، علمًا أنّ الدستور ينصّ على أنّ الثقة لا تُعطى إلا بعد تأليف الحكومة، وبناءً على بيانها الوزاريّ، الذي لم تبدأ ورشة إعداده بعد.

قد يقول قائل إنّ التجربة أثبتت أنّ كلّ هذه الأمور "شكليّات"، وأنّ الثقة لم تكن يومًا مرتبطة فعليًا بالبيان الوزاريّ، حتى أنّ بعض مكوّنات الحكومات المتعاقبة سابقًا كانت "تتحفّظ" على البيان، من باب رفع العتب، من دون أن يثنيها ذلك عن منح الثقة، من الزاوية السياسية.

رغم ذلك، ثمّة من يعتقد أن إثارة مسألة "الثقة" اليوم، وبالشكل المُبالَغ به الذي يتمّ، إن جاز التعبير، لا تنطوي سوى على محاولة "بحث عن عُقَدٍ" جديدة، كيفما كان، وبأي شكل، لتبرير التأخير المتمادي في تأليف الحكومة.

هكذا، وتمامًا كما أنّ "كلّ الطرق تؤدي إلى روما"، وفق المقولة الشائعة، يبدو أنّ كلّ الطريق تؤدي إلى "تعميم الفوضى"، لأنّ إرادة التأليف لم تنضج بعد، إلا إذا تحقّقت "المفاجأة"، ونجحت مبادرة رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، حيث أخفق كلّ اللاعبين.