لم يكن سراً ان رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ كان تذكرة عودة النائب ​سعد الحريري​ الى رئاسة الحكومة ولو عبر التكليف (حتى الآن)، وانه يسعى بكل ما أوتي من قوة، الى تثبيته في السراي الكبير حتى نهاية عهد رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​. وفي خضم الحرب المستعرة بين بري من جهة وعون ورئيس "التيّار الوطني الحر" النائب ​جبران باسيل​ من جهة ثانية، كان لافتاً لجوء رئيس المجلس النيابي الى "بعبع" الامن، والتخويف والتحذير من تهديد أمني اذا ما اعتذر الحريري. وعلى الرغم من الاعتراف بقدرات برّي في الكلام والاخراج لمواقف مستعصية، الا انه هذه المرة وبهذه الذريعة، لم يقنع احداً ولا يمكن لاحد ان يصدّق ان منع الفلتان الامني التام في لبنان مرتبط ببقاء الحريري رئيساً مكلفاً الى ان يشكل الحكومة العتيدة.

حاول بري ترويع الجميع من خلال فرض معادلة "الحريري او الفوضى"، وهو قول شهير انما بأسماء مختلفة واتى على لسان السفير الاميركي في العام 1988 ريتشارد مورفي: "​مخايل الضاهر​ او الفوضى". ولكن الفارق كبير، فمورفي كان يمثل الولايات المتحدة الاميركيّة وهي القادرة على اللعب بمصائر شعوب ودول، ليس فقط في لبنان، انما في كل انحاء العالم، كما أن لبنان كان فعلاً في فوضى أمنية ومقسماً. اما اليوم، فمع التسليم بقدرة بري على التأثير في الوضع اللبناني، الا انه لا يمكن ان يصل الى مستوى اللاعبين الدوليين، بمعنى ان الفوضى الامنيّة ليست في يد طرف أي فريق لبناني، مهما كان اسمه ومكانته في الحياة السياسية اللبنانية، ويقيناً لو كان الامر كذلك لما بقينا ننعم بمظلة امنيّة دوليّة ولا كنّا خارج مشهد العام 1975 وما تلاه لسنوات طويلة.

ان الفلتان الامني اللبناني لا يقف عند بري والحريري، والجميع يعلم ذلك، ولعل المساعدات الدوليّة للجيش اللبناني واحاطة قائده ​العماد جوزاف عون​ بالحفاوة عندما يحلّ في الدول الاجنبيّة وعواصم القرار، خير دليل على انّ العالم اجمع لا يريد للبنان ان يشهد فلتاناً امنياً، ليس محبة باللبنانيين، انما حرصاً على مصالحه اولاً واخيراً. ولكن، لماذا اختار بري هذه الذريعة الواهية؟ الجواب بكل بساطة انه لم تعد هناك من اوراق اخرى للتهديد بها، فالفوضى الاقتصاديّة قد حلّت بالفعل، وترافقت مع فوضى ماليّة واجتماعيّة وصحّية ومعيشيّة وحياتيّة... فكل الاوراق قد تمّ استخدامها، ولم تعد هناك من ورقة للتهويل، سوى الورقة الامنيّة. لذلك، لجأ اليها برّي لتخويف اللبنانيين، ولو انّها ليست بيده، كما انّه يدرك تماماً انّ ​حزب الله​ (اللاعب الرئيسي في اي مشكلة امنيّة قد يشهدها لبنان) غير مهتم بالكامل بهذه المسألة، لا بل اكثر من ذلك، يعمد بكل امكاناته، لتفادي أيّ سيناريو أمني سيّء لانّه يرتد سلباً عليه بشكل عام.

يستميت رئيس مجلس النواب لتقديم الحريري على انه المنقذ الفعلي للبنان، وهو الوحيد الذي يرى ذلك، فقد استقرّ الرأي وبشكل علني، من قبل العالم اجمع، على انه من المفضّل ان يكون الحريري رئيساً للحكومة، ولكن هذا لا يعني أنّه الوحيد، وان العالم لن يتعامل او يتعاطى مع رئيس حكومة آخر، ولم يهدّد أحد من اصحاب القرار بـ"الحريري او الفوضى"، لعلمهم الاكيد بأنّ أي حكومة جديدة ستسير على درب معبّد سلفاً سقطت معه شروط كثيرة من ​المبادرة الفرنسية​، وحدّدت لها اشارات واضحة لا يمكن الحياد عنها لتسيير الامور واعادة الوضع الى ما كان عليه قبل 17 تشرين الاول 2019. اما اذا كان هدف بري ايصال رسالة الى عون وباسيل عبر التهديد بالشارع، فهي لعبة لطالما حذّر منها بنفسه، وهو وان كان قادرا على البدء بها، الا أنّه يقيناً غير قادر على التحكّم بمسارها ومن المستبعد جداً ان يُقدم عليها، ما لم يحظَ بغطاء دولي غير متوافر حالياً.

وعليه، يمكن القول أنّ لبنان يتعرض لكل انواع التهديدات، الا التهديد الامني الذي تتحكم به كلياً القوى الخارجيّة، ولن يفيد التهويل به ومن المؤكّد انه إذا ما اعتذر الحريري او فشل في التأليف، فإنّ الوضع الامني اللبناني لن يهتزّ بالشكل المتخوَّف منه، وقد تشهد بعض المناطق خضّات امنيّة محدودة جداً لن تصل الى مستوى التهديد او الفوضى.