كلمةُ مَجنون صِفةٌ مِن فِعل جَنَّ، وعندما يتكلَّمُ الإنجيلُ على المَجنون، بِاللغةِ الأصليَّةِ اليُونانيَّةِ التي كُتب فيها، يَستعمِلُ δαίμων Zaimon، وهِي مَصدَرُ كَلِمة Demon / Démon، التي أصبحت تعني معَ الوقتِ "الشّيطان" أو "الرّوح النّجس"، عِلمًا أنَّها، في أصلِها القَديمِ، كانت تُطلَقُ على آلهة رُتبتُها أدنى مِن غيرِها أو أولادِ آلِهَةِ، وتُعتَبرُ كآلِهَةِ وِصَايَة.

كما أُطلِقَتِ التَّسميةُ على أشخاصٍ كان يُعتَقَدُ أنَّهم مُحرَّكون Manipulated / Manipulé بِقُوَّةٍ خَارقَةٍ خَفيَّةٍ ومَجهُولَة Genie / Génie، وكانوا يُعتَبَرُونَ ذَوي مَعرِفَةٍ كَبيرَة ودَهاء. كما نَجدُها أيضًا في معانٍ أُخرى فَلسَفيّة، كاكتِشافِ الذَّاتِ والإرشاد والحكمة، ورُوحٍ خارٍقةٍ يُمكِنُ أن تَكونَ بنَّاءةً أو هَدَّامة، خَيِّرةً أو شِرّيرَة بِحَسبِ استِعمالِها مِن قِبَلِ صاحِبِها.

وفي الأصلِ الهِندو-أُوروبيّ، قِيلَ إنّ المَعنى يُشيرُ إلى الانقِسام To divide / Diviser، وتَقسيمِ الثَّرواتِ والأَقدَار، كما أَخذَت معانيَ أُخرى تَصِلُ إلى التَّمزيقِ والتَّجريحِ Lacerate / Lacérer، وهذا يُفضي إلى التَّدميرِ الذّاتيّ Auto-destruction، مِن خِلالِ قُوّةٍ أقوى مِنَ الإنسانِ تُرغِمُهُ على القِيامِ بِأُمورٍ تَجعَلُهُ مُضطَّرِبًا. وفي اللاهُوتِ نَحنُ نَقول: سَيطَرَتْ عَلَيهِ الخَطيئَة.

بِالعَودَةِ إلى الإنجيلِ، نَجِدُ الكَلِمَةَ المُستَعمَلةَ في إنجيلِ هذا الأَحَدِ الّذي يَتكَلَّمُ على الشَّخصَينِ الخَارِجَينِ مِنَ القُبورِ في كُورَةِ الجُرْجُسِيّينَ، الكَلِمَةُ هِيَ "مجنون" (Zaimon) Demonic / Démoniaques وتأتي بِمَعنى "المَمسُوس" Demon-possessed / Possédé ، ذلكَ بِسَبَبِ قَولِهما للرَّبّ: "ما لَنا ولَكَ يا يسوعُ ابنَ الله؟ أَجِئتَ إلى ههنا قبلَ الزمانِ لِتُعذِّبَنا؟ (متى ٢٩:٨)"، لِيعُودَ النَّصُّ الإنجيليُّ فيَذكُر كَلِمَةَ "شَياطين" بِوُضُوحٍ عِندَ طَلبِهِمِ السَّماحَ لهم لِيَدخُلُوا قَطيعَ الخَنازِير.

ويُقابِلُ هَذا النَّصَّ نَصَّان عِندَ لُوقا ومَرقُس الإنجيليَّين، مَعَ فارِقٍ أنَّهما يَذكُرانِ مَجنُونًا واحِدًا فقط، وبِداخِلِه رُوحٌ نَجِسٌ، وهُوَ "لجئون Légion / Legion" بِمَعنَى فِرقةٍ مِنَ الجَيشِ الرُّومانيّ يُقارِبُ عددُها الـ ٨٠٠٠ جُنديّ.

في المَفهُومِ الطِّبيّ، كَلِمَةُ "مَجنون" غيرُ دَقيقَة، وشَعبِيًّا تُشيرُ إلى شَخصٍ ذي تَصرُّفاتٍ غَريبَة، وغَيرِ مَنطِقيَّةٍ، ويُقالُ عَنهُ "فاقِدُ العَقل". وهنا يَبدأُ لُبُّ المَوضُوع. إذ لم يَعُد هذا الشَّخصُ يتحلَّى بالمَنطِقِ الطّبيعيّ الإنسانيّ، ولا بالحِكمَة. ولَكِن بِالمَفهومِ اللّاهُوتيّ يَذهَبُ المَعنى أبعدَ مِن هذا بِكَثير، لأنَّ الإنسانَ ليس بشرًا وحَسب، بَل عِندَهُ شَيءٌ إلهيٌّ، فَهو على صُورَةِ اللهِ، ومَدعوٌ أن يَنمُوَ لِيُحَقِّقَ المِثالَ الكامِلَ لله.

أمّا مَقصَدُ الإنجيلِ مِنِ استِعمالِ كَلِمَةِ مَجنون بِاللُّغَةِ العَرَبيَّة - وهنا الحديثُ ليسَ طِبيًّا - وإن فَضّلَ البَعضُ استِعمَالَ كَلِمَةِ "مَمسُوس" كتَرجَمَةٍ دَقيقَة، يبقى المَقصَدُ أنَّ المَجنُونَين فَقَدا المَنطِقَ الطَّبيعيَّ عِندَ الإنسانِ الّذي يَبحَثُ عَنِ اللهِ ولا يَرتَاحُ إلّا فيهِ، أَأدرَكَ الإنسانُ ذَلِكَ أم جَهِلَه. وهذا سببُه أنَّ في داخِلِنا نَسمَةَ الحَياةِ الآتِيةَ مِنَ الله. والصُّورَةُ تتجلّى أكثرَ عندَ مَا يَذكُرُهُ الإنجيليّ لُوقا، إذ بَعدَ أن أَخرَجَ يَسوعُ الشّياطِينَ مِنَ المَجنُونِ، وجَدَهُ النَّاسُ "عاقِلًا وجَالِسًا عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ" (لوقا ٣٥:٨)، بَينَما كانَ قبلَ ذلكَ خائفًا مِن الرب، يَهرُبُ مِنهُ مُستَحلِفًا ايَّاهُ ألّا يُعَذِّبَه.

يَقولَ كاتِبٌ هَنغاريّ ورجل دولة كبير يُدعى MIKLOS ZRINYI، مِنَ القرنِ السَّابِعِ عَشَر، قولًا رائعًا حَولَ هذا المَوضوع:

".Quelle obscure folie d'avoir laissé mourir ce que m'offrait la vie" أي، يا للجنون الظَّلاميّ أن يَسمَحَ الإنسانُ بِمَوتِ ما قَدَّمتْهُ لَهُ الحَياة.

فَكيفَ بِالأحرى أن يُمِيتَ حَياتَه نفسَها الّتي قَدَّمها له يَسوعُ الّذي هُوَ الحَياة؟

وقصدي هنا ليس الموتَ الجَسديّ، إنَّما المَوتُ الرُّوحيّ الّذي هُوَ المَوتُ الحَقيقيّ. لأنَّ المَوتَ الجَسديَّ الطَّبيعيّ هُوَ رُقادٌ وانتِقال، بينما المَوتُ الرُّوحيُّ هو فُقدانُ كُلِّ إحساسٍ بشريّ، ومَنطِقٍ مُستَقيمٍ وسَليمٍ زَرَعهُ اللهُ في داخِلِنا، فنفقِدُ بِالتَّالي سَعيَنا للاتِّحادِ بِخالِقِنا الّذي يُعطِينا الحَياةَ الأبَدِيَّة مَعَه. ولا بد لنا هنا أن نذكر ما قاله القدّيس اسحق السرياني: "أبشع الخطايا عَدم الحِسُّ".

إنّ أَوَّلَ ما يَفعَلُهُ الشّريرُ بِمَن أسلَم له نفسَهُ، يَفصِلُهُ عنِ اللهِ، ويُبَدِّدُ لَهُ مِيراثَهُ الأبديّ، ويُفقِدُهُ حِسَّ التَّمييزِ والمَعرِفَةِ الحَقيقِيَّةِ الخَلاصِيَّة، ويُجَرِّحُهُ داخِليًّا فَيُصبِحُ، مِثلَ المَجنُونَين، سَاكِنَ القُبورِ حَتّى ولَوِ امتَلَكَ أفخَمَ القُصور. فَالخَطِيئَةُ فِينا على أنواعِها الضَّارَّةِ والسَّامَّةِ تُمَزِّقُنا، ونُصبِحُ بِها مُنقَسِمينَ حتَّى على أَنفُسِنا ومُقَيَّدِينَ بِسلاسِلِها.

ومِن أُولى عَلامَاتِ الجُنونِ الشَّيطانيّ نِسيانُ الإنسانِ بِأنَّهُ بَشريٌّ، وبِالتّالي لا يعودُ يُعامِلُ الآخَرِينَ على أنَّهم بَشَر. وهذا عَكسُ النّاموسِ الطَّبيعيّ الّذي يَتكَلَّمُ عليهِ بُولُسُ الرَّسولُ في رِسالَتِهِ إلى أهلِ رُومية، والمَقصودُ بِهِ "الضَّميرُ" الّذي هُوَ صوتُ اللهِ فِينا، والّذي هو المَنطِقُ الصَّحيحُ والعَقلانيّ. فلا يَعودُ منطِقُنا مَنطِقًا، ولا حِوارُنا حِوارًا، ولا مُعاملتُنا للآخَرِينَ لائقةً، ويُصبِحُ كُلُّ ما يَنتُجُ عَنّا مَمسُوسًا.

وليسَ مِنَ الغَريبِ على الإطلاقِ، في هذا السّياق، أن نَذكُرَ أنَّ كَلِمَةَ "مَنطق"، وكَلِمَةَ "جَدَلِيَّة"، في أصلهما اليُونانيّ القَديم مَتلازِمَتان، إذِ الإنسانُ اللامَنطِقيّ لا يُمكِنُ أن يُقَدِّمَ إلّا الاعوجاج.

فكَلِمَةُ مَنطِق Logique، مُشتَقّة مِن Logos (الفعل والكلمة)، وتعني في الوقتِ نفسِه Raison و Langage و Raisonnement، بمعنى السَّبب والتّعبير والتّفكير، إذ مُنذُ ظُهورِها كَكَلِمَةٍ عَنَت الـ Discipline، أي قَواعد السُّلوك، وهذا يُمَثّلُ الإنسانَ بِالكامِل، فكريًّا وذهنيًّا وقلبيًّا وروحيًّا وجسديًّا.

كَذلِكَ الجَدَلِيَّة Dialectique، هِيَ تَبادُلُ المَنطِقِ، فَهِي لَيسَت بِمَعناها الحَقِيقيّ والأصلِيّ أمرًا سَلبيًّا، بل تَعني بَلاغَةً وتَبادُلًا. وهذا ما ذَكَرَهُ أفلاطون في كِتابِهِ "الجُمهورِيَّة La République1"، أنّ الجَدَليَّةَ خلفَ كُلِّ بَحثٍ عَنِ الجَوهَر.

خُلاصَةً نَقول، نَحنُ مَدعُوونَ إلى أن نَخرُجَ مِن قُبورِ سَقطاتِنا، بِاعتِمادِ المَنطِقِ الإلَهيّ المَوجُودِ في داخِلِنا، وهُوَ المَنطِقُ الطّبيعيّ الّذي على أساسِهِ خُلِقنا وإلّا لأصابَنا الجُنونُ، وعِندَها نَتُوهُ وتَسكُنُنا الظُّلمَةُ ونُدَمِّرُ أنفُسَنا والعالَمَ مِن حَولِنا ونجعله قبورًا للنفس قبل الجسد.

وإن كانَ لا بُدَّ مِنَ الجُنونِ، فلنُجَنَّ بِالرَّب، أي أن نَعشَقَهُ بِكُلِّ ما لَدَينا مِن قُوَّةٍ وفِكرٍ ومَنطِقٍ وإحساس. إلى الرب نطلب.

(1)

— Platon, La République, Livre VII, 533b