مرّة أخرى، يجد اللبنانيون أنفسهم أمام موجة من "الإيجابيّة المفرطة"، قبل أيام من استشارات نيابية ملزمة لتسمية رئيس حكومة جديد يخلف ​سعد الحريري​ ومصطفى أديب، لا تزال صورتها ضبابيّة وغامضة، رغم ما يحكى عن ارتفاع أسهم رئيس الحكومة الأسبق ​نجيب ميقاتي​، باعتباره مرشح الحريري و"الثنائيّ الشيعيّ"، إن جاز التعبير.

وصلت هذه الموجة إلى حدّ استباق موعد الإثنين بإطلاق "إشاعات" تبالغ في بثّ "جرعات" التفاؤل، لا تبدأ بالحديث عن ​تأليف الحكومة​ بسرعة "قياسيّة"، بحيث تبصر النور قبل الذكرى السنوية الأولى لانفجار الرابع من آب المنصرم، ولا تنتهي بـ"التبشير" بانخفاض حادّ لسعر الدولار في مقابل الليرة اللبنانية، ربما في محاولة لـ"دغدغة" مشاعر اللبنانيّين.

تتزامن هذه الموجة مع "تفاقم" الأزمات التي يتخبّط خلفها اللبنانيون، وسط توقّعات بأن يكون الأسبوع المقبل هو "بروفا جهنّم"، إن جاز التعبير، في ضوء "العتمة الشاملة" التي باتت أمرًا واقعًا، مع إطفاء المولدات الخاصة، نتيجة نفاد مادة المازوت، في أزمةٍ تهدّد معظم القطاعات، من المستشفيات والأفران إلى الفنادق والمطاعم، مرورًا بالإنترنت وغيرها.

لكن، ما هي أسُس موجة "التفاؤل" المستجدّة هذه؟ وما صحّة التوافق على ميقاتي رئيسًا للحكومة؟ وهل يُعطى الأخير ما لم يُعطَ الحريري من قبله، وكلاهما يشتركان في عضويّة نادي رؤساء الحكومات السابقين، الذي يناهض "العهد"؟ وحتى لو أعطي "صلاحيات" لم تُعطَ للحريري، فهل يملك "عصا سحرية" تسمح بالإفراط بالتفاؤل لهذا الحدّ؟

في المبدأ، قد لا تكون موجة التفاؤل هذه بجديدة، فقد سبق أن اختبرها اللبنانيون مرّات ومرّات، عند تكليف الحريري، وفي محطّات عديدة بعده، من دون أن يفهم اللبنانيون حتى اليوم جذورها وأسسها الحقيقيّة، خصوصًا أنّها كانت تصطدم في كلّ مرة بالواقع المغاير، ليتبيّن أنّها كانت "وهميّة" إلى حد بعيد، أو محاولة "توظيف سياسيّ" في أحسن الأحوال.

رغم ذلك، ثمّة من يراهن على "التوافق" على ميقاتي لرئاسة الحكومة، باعتبار أنّ الرجل الذي بدأ رئيس مجلس النواب التسويق له بجدّية، لا يبدي "​حزب الله​" ممانعة له، ويوافق عليه رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، الذي سبق أن توصّل إلى "تفاهم شامل" معه، وبالتالي فهو يحظى بـ"غطاء" طائفته، بعدما تجاوزت الأخيرة مرحلة "حكومة اللون الواحد" التي ترأسها في مرحلة سابقة، وسُمّيت بـ"حكومة حزب الله".

لكن، من باب هذه التجربة الحكوميّة بالتحديد، لا يبدو "​التيار الوطني الحر​"، الخارج عن عباءة التوافق على ميقاتي، متحمّسًا للأخير، فهو يرى فيه "وكيلاً" إن جاز التعبير عن "الأصيل"، وهو الحريري، وبالتالي يخشى "المزايدات الشعبوية" التي قد يلجأ إليها، منعًا لتفسير أيّ خطوة يقدم عليها على أنّها "تنازل" لم يقدّمه الحريري نفسه، كما أنّه يدرك أنّ ميقاتي غير بعيد أبدًا عن المعايير التي استند إليها الحريري، وأدّت إلى "الصدام" مع رئيس الجمهورية.

لهذه الأسباب، يعتقد كثيرون أنّ "التيار الوطني الحر" أخرج في الساعات الأخيرة "ورقة" السفير ​نواف سلام​، معلنًا أنّه "يدرس" تسميته في ​الاستشارات النيابية​، في "رسالة امتعاض" واضحة الدلالات والمغازي إلى الحليف "حزب الله" بشكل خاص، وهو ما أكّده عضو تكتل "لبنان القوي" النائب إدي معلوف، الذي لم يتردّد في الإعلان صراحةً أنّه "ليس بالضرورة أن نكون على الرأي نفسه مع حزب الله".

ولعلّ هذا "التناقض" في الرؤى بين "التيار" وشركائه في الأكثرية النيابية يخبئ بين طيّاته "الهواجس والتوجّسات" من السيناريو الحقيقيّ، غير المصطنع، لما قد تفضي إليه تسمية ميقاتي رئيسًا للحكومة، في ظلّ التباينات الحالية، والتي قد لا تقود سوى إلى "مصير" مشابه لذلك الذي أنتجته مرحلة الحريري، وإن كان البعض يستبعد أن "يصمد" ميقاتي أشهرًا طويلة، ويلمّح إلى أنّه، إن وافق على التسمية، سيقيّد نفسه بمهلةٍ "قصيرة" قد لا تتعدّى الأسبوعين.

وفي ضوء كلّ ما يتقدّم، لا يزال "سيناريو" تأجيل الاستشارات المقرّرة الإثنين أكثر من وارد، وفق ما يقول كثيرون، إذ ثمّة من يعتقد أنّ ميقاتي نفسه لن يوافق على تسميته "على بياض"، وهو يطلب ضمانات مسبقة، وإجابات واضحة على سلسلة من الأسئلة الجوهرية، انطلاقًا من تجربة "سلفه" الحريري، وهو ليس مستعدًّا لخوض أيّ "مغامرة" غير محسوبة النتائج في الوقت الحالي، قد لا يبالغ البعض حينما يصفها بـ"الانتحاريّة".

وفي الوقت نفسه، ثمّة من يقول إنّ "التيار" نفسه قد يلجأ إلى طلب تأجيل الاستشارات، في محاولة لإدخاله في قلب "التسوية"، أسوة بما فعله عشيّة الاستشارات التي كان ينبغي أن تأتي بالحريري رئيسًا للحكومة، فعمد رئيس الجمهورية إلى تأجيلها، بذريعة تلقّيه طلبًا بهذا الخصوص من كتلة "الطاشناق"، مراهنًا على تغييرٍ في المواقف لم يحدث، في "سيناريو" يعتقد كثيرون أنّ احتمال تكراره اليوم لا يبدو ضعيفًا على الإطلاق.

في كلّ الأحوال، وأيًا كان مصير الاستشارات المقرّرة الإثنين، وحتى لو أفضت إلى تسمية رئيس حكومة جديد، فإنّ الأكيد أنّ من سيُكلَّف، سواء كان الحريري أو غيره، لن يملك "عصا سحرية" لإصلاح أوضاع البلاد الكارثيّة في يوم وليلة، بل إنّ أقصى المأمول من الحكومة العتيدة التحضير لانتخابات نزيهة تعيد فرز الخريطة السياسيّة، بعيدًا عن تقديم المزيد من "الوعود المجانية" التي تضرّ ولا تنفع!.