نقرأ في ​إنجيل​ِ هذا الأحد (متى ٢٧:٩-٣٥)ِ، أنَّ الرَّبَّ يسوعَ المسيحَ، بعدَ أن فتَحَ أعيُنَ أعمَيين، وفكَّ لِسانَ أخرسَ مُخرِجًا منه شيطانًا، بدأ "يَطُوفُ الْمُدُنَ كُلَّهَا وَالْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي الشَّعْبِ"(متى ٣٥:٩).

سنتوقَّفُ عندَ عِبارَةِ "بشَارَةِ الْمَلَكُوت Tó evangélion tís vasileías".

بما أنَّ الإنجيلَ كُتِبَ بِاللغَةِ اليُونانيّة، فلا بد إذًا مِنَ الرُّجوعِ إلى اللغَةِ الأصليَّةِ لإدرَاكِ المَعنى بِدِقَّة.

لِنبدَأ بِكَلِمَةِ بِشارَة. هِيَ مُرَكَّبةٌ مِن كلِمَتَين وتَعني "الخَبرَ السَّار"، ومِنها أَتت كَلِمَةُ إنجيل، والمَلاكُ بِاليُونانِيَّةِ Άngelos تَعني ناقِلَ الخَبَر.

أمَّا كلِمَةُ مَلكوت، فهي مُرتَبِطَةٌ بالمَلِكِ والمَملكةِ والمَلَكِيَّة. لذا، يأتي المَعنى اللّاهوتِيُّ لبشَارَةِ الْمَلَكُوت، لِيَكونَ الخَبرَ السَّارَ لِمَلكوتِ اللهِ، حيثُ اللهُ هُوَ المَلِكُ الوَحيد، ومملَكتُهُ إلهِيَّةٌ أبَدِيَّة لا يَسودُها خرابٌ أو فَساد، ومُلكُهُ مَدفوعٌ ثمنُهُ دمًا على الصَّليب. والَذي يُكلِّمُنا، أي يَسوع، هُوَ اللهُ الابنُ المُتجَسِّد.

من ثِمارِ هذا المَلكوتِ العِلاجُ الشَّافي الّذي يُؤدِّي إلى الشِّفاءِ الكَامِلِ Thérapie /Therapy أي أن يُصبِحَ الإنسانُ صحيحًا. وما الشِّفاءاتُ الّتي اتَمَّها يسوعُ إلّا مُقدِّمَةٌ للشِّفاءاتِ مِنَ الخَطايا الّتي تُهلِكُ الإنسانَ وتُفقِدُهُ قداسَتَه.

يسوعُ يُدعُونا إلى ملَكُوتِه، لأنّنا، بِكُلِّ بَساطَةٍ، أبناءُ المَلِكِ السَّماويّ بِالتَّبنِّي، ونَحنُ مَدعوونَ لِتَحقيقِ المَلكوتِ الإلهيِّ على الأَرضِ كما هُوَ في السَّماء. أليسَ هذا ما نُصلّيهِ في صَلاةِ الأبانا؟ نحنُ رُسلُ اللهِ على الأرضِ، وعامِلُونَ مَعَه لِتحقِيقِ مَشيئَتِهِ الخَلاصِيَّة.

حذارِ أن نُهمِلَ هذا الأمرَ، فالرَّبُّ أعلَنَ هذا التَّحذِيرَ صَراحَةً بِقَولِه: "مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ"(متى ٣٠:١٢).

عَمليَّةُ البِناءِ مَعَ اللهِ تَبدأُ أوَّلًا بِالعَمَلِ بِوصايَاه. وأعظَمُ وَصِيَّةٍ هي المَحبَّة. وكُلُّ بِناءٍ خارِجَ المَحبَّةِ، مَهما عَظُمَ، هُوَ ساقطٌ واللهُ غَريبٌ عنهُ ولا يَقبَلُه. أمَّا مَن جَسَّدَ مَحبَّةَ اللهِ في ذاتِهِ أوّلًا، لِتنتَقِلَ طبيعيًّا إلى الآخَرينَ كالنَّهرِ الجاري، يَدخُلُ "الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ" التي تَكلَّمَ عليها القدِّيسُ يوحنّا الإنجيليّ في سِفرِ الرُّؤيا، حيثُ سَمِعَ: "صَوْتًا عَظِيمًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا: «هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْبًا، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهًا لَهُمْ.» (رؤيا ٢:٢١-٣).

وهنا أَعودُ إلى كِتابٍ صَدَرَ في العامِ ٢٠١٤ للكاتِبِ الفَرنسيّ Emmanuel Carrère، بِعنوان Le Royaume” المَلَكوت “.

هو كِتابٌ ضخمٌ مِن ٦٤٠ صفحةً، غلافُهُ أبيضُ مكتوبٌ عَليه عُنوانُ الكِتابِ بِخَطٍ كبيرٍ، واسمُ الكاتِب.

صورَةُ الغِلافِ تُترجِمُ بحثَ الكاتِبِ عن شيءٍ لم يَجِدْه، إذ Emmanuel يُعلِنُ صَراحَةً أنَّهُ تَخلّى عنِ الإيمَانِ بَعدَ أن كانَ مُؤمِنًا في شَبابِهِ ومُمارِسًا بقوّة.

يدُورُ موضُوعُ الكِتابِ حولَ وِلادَةِ المَسيحِيَّةِ، مَعَ اهتِمامٍ خاصّ بِرحلاتِ الرَّسولَين بُولسَ ولُوقا، وذلك بِأُسلوبٍ رِوائيّ لا يَخلو مِنَ السُّخريَةِ في كثيرٍ منَ الأحيَان.

وسرعانَ ما حَقَّقَ الكِتابُ شُهرةً واسِعةً، مُتَصدِّرًا المَجلّاتِ والصُّحُفَ وحَاصِدًا جَوائِزَ، ووَصَفَهُ النُّقادُ بِأنَّهُ يَجمَعُ بينَ غيرِ المُؤمنِ وهو حالُ الكاتِبِ اليومَ، وبينَ المُؤمِنِ التّقليديّ الذي كان يُمارِسُ تَقالِيدَ بَالِيةً Mœurs périmées، ويُؤمِنُ بِمُعتقَدَاتٍ قد زالَت.

ولكن الجَديرَ بِالمُلاحَظَةِ ويستَدعي التَّوقُّفَ عِندَهُ هو خاتِمَةُ الكِتابِ، إذ ينتَهي الكاتِبُ بِعِبارَةِ "لا أدري/ لا أعرف Je ne sais pas".

وهَذه العِبارَةُ جاءَت خُلاصَةً لاستِجوابٍ شَخصيّ طَرَحهُ الكاتِبُ على نَفسِهِ حولَ إيمانِهِ سابِقًا، إذ كَتَبَهُ في عُمرِ السِّتةِ والخَمسين. ويُلاحِظُ القارِئُ مِن خِلالِ الرِّوايَةِ حَنينَ الكاتِبِ العميقَ للإيمَانِ، ولكنَّهُ في حَالَةِ اضطِراب.

وهُنا نَصِلُ إلى النُّقطَةِ الجَوهَريَّة. العديدُ مِنَ البَاحِثينَ والفَلاسِفَةِ، مُنذُ القديمِ وحتّى اليوم، بَحثُوا عنِ اللااضطراب Ataraxie، وانتهى بحثُهم بِالعِبارَةِ نفسِها "لا أعرف"، حتّى لو لم يَذكُروها حَرفيًّا.

وهذا يُذَكِّرُنا بِعَودَةِ الكاتِبِ الفَرنسيّ Charles Péguy (1873-1914)، إلى إيمَانِهِ المَسيحيّ بعدَ سِنينَ طِوال، وكان ذلك بين عامَي ١٩٠٧/١٩٠٨م، ممّا أدهَشَ أصدِقَاءَهُ، إذ سألَهُ أحدُهُم مُتَعجِّبًا، بعد أن بَدأَ شارل يَكتُبُ عنِ المَسيحِيَّةِ بِأجمَلِ التَّعابير: "هل أنتَ فِعلًا تُؤمِنُ بِما كُتِبَ في الأناجيلِ، وبِالوَحي الإلَهيّ؟ أم أنتَ مُتأثِّرٌ بِجَمالِ الأدَبِ في الأناجِيل"؟.

أجابَهُ شارل، وهُوَ ينظُر إليهِ بِكُلِّ ثِقَة: أومِنُ بِالإنجيلِ كَمَسيحيّ حَقِيقيّ، وقد عُدتُ إلى اللهِ بِمُجرَّدِ أن عُدتُ إلى نَفسي. إنّها عَودَةٌ طَبيعِيَّةٌ جِدًّا. إنَّهُ اكتِشافٌ لِذاتِي، ودُخُولٌ إلى عُمقِ قَلبي Un approfondissement du cœur. وشكلّت أَناجِيلُ الآلامِ كما رواها متّى نُقطَةَ العَودَةِ عند شارل.

ويبقى الصِّراعُ الكبيرُ والدَّائمُ في كُلِّ زَمانٍ، بينَ الأنا المُؤمِنَةِ والأَنا البَاحِثَة، كي لا أقولُ الرَّافِضة، لأنَّ عُمقَ الإنسانِ في بَحثٍ دائِمٍ عن خَالِقِهِ الّذي هُوَ المُعطِي السَّلامَ الحَقِيقي.

وأَختُمُ بِعبَارَةٍ رائعةٍ لِشارل بيغي: الأسوأُ مِن امتِلاكِنا فكرةً سَيّئة، هو اعتِبارُها نهائيّة. أي نختُمُها وكأنّنا حَصلنا بِها على الحَقيقَةِ الكامِلة.

وبِالعَودَةِ إلى بِشارَةِ المَلَكوت، نَقُولُ يَقينًا: هنا كُلُّ الحَقيقَةِ والرَّبُّ يَنتَظِرُ عَودتَنا لِيَفرَحَ كُلُّ أهلِ السَّماءِ بِنا.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.