هنئياً للبنانيين دخولهم موسوعة "غينيس" الشهيرة ​العالم​ية، ليس من باب الانجازات الباهرة، بل من باب الخنوع والاستسلام وما يسمونه "التأقلم". ارتضوا وللاسف، ان يكونوا "فئران مختبر" guinea pigs، وبات الامر موثقاً، لانه لم يمر في تاريخ البشرية على شعب ما يمرّ على ​الشعب اللبناني​، من دون ان يتحرّك ويثور لتغييرالواقع. كقطيع من الاغنام يساقون الى المسلخ، يسير ​اللبنانيون​ على ضوء انوار الطائفيّة والاستزلام و​الدفاع​ عن الزعيم والمسؤول "الروح والدم"، ولم يكن احد يتوقع ان يحوّلوا هذا الكلام الى واقع، حيث يفقدون حياتهم وكرامتهم وحتى حياة اولادهم، في سبيل هذه المقولة التافهة.

لم يتوقّع احد في العالم، حتى اللبنانيون انفسهم، ان يكونوا مطّاطين الى هذه الدرجة في التأقلم مع الصعوبات التي يواجهونها، والتي باتت كالافلام تزداد تعقيداً. ان "العقول الاجرامية" Criminal Minds التي خطّطت، ولا تزال، للسيناريوهات الجهنميّة التي يعيشونها، خير دليل على الدرك الاجرامي الذي وصلوا اليه. اما العجيب، فهو "تأقلمهم" مع كل المراحل المستعصية التي تم وضعها لهم، والتي لا يمكن لاي شعب ان يتحمّل بعضها، فكم بالحري كلها؟ ايّ شعب سكت على حجب أمواله عنه؟ اي شعب سكت عن انقطاع ​الدواء​؟ اي شعب سكت عن انقطاع ​المحروقات​؟ اي شعب سكت عن ​انقطاع الكهرباء​ وحتى المولّدات؟ اي شعب سكت عن ارتفاع سعر صرف ​الدولار​ بشكل خيالي؟ اي شعب سكت عن عدم قدرته على شراء ​المواد الغذائية​ الاساسية؟ ايّ شعب سكت عن عدم القدرة على تشكيل ​حكومة​ في ظل هذه الظروف المأساوية؟ وغيرها الكثير الكثير من الامور...

ان كل مسألة من هذه المسائل كفيلة بانتفاضة شعبيّة تطيح بالجميع وتؤسس لمرحلة جديدة تشكل مرجعا دائماً للشعب اللبناني في ​المستقبل​، تظهر بما لا يقبل الشك انّه عندما تصل الامور الى حدّ ​الحياة​ والموت ومستقبل الاولاد، فلا شيء يعلو على هذه الاولويات، لا الطائفة ولا الزعيم والمسؤول، ولا المصلحة الشخصية التي سرعان ما تغيب... اصبح الشعب اللبناني حقل تجارب، لا بل اشبه بالحبل المطاطي الذي لم ينقطع بعد، لا بل هو آخذ بالتمدّد وسط ذهول الجميع، وعلى الارجح انه سيتمدّد اكثر واكثر اذا ارتأى الخارج اكمال هذه المسرحيّة واللاعبين المحليين انه يمكن استغلال الامور الى بعد اكبر بكثير مما هو عليه اليوم.

اضافة الى ذلك، يتجسّد عجز اللبنانيين عن التوحّد على مسائل جوهرية، وبدل الاتفاق على مواجهة من "يتسلّى" بهم وبمصيرهم، انقسموا على انفسهم وباتوا يتلذّذون في مصّ دماء بعضهم ارضاء لمصالحهم الشخصية فيابشع صورة يمكن ان تتجلّى لشعب يعاني من ضغوط لم يسبق ان شهد مثلها احد على مر التاريخ بهذا الحجم.

ليس اسهل على اللبناني تبنّي شعار عدم النسيان وكتابته على الجدران والاوراق، ولكنه فعلياً من اكثر الشعوب التي تنسى، والاثباتات لا تعدّ ولا تحصى. بعد فترة (قد تكون قصيرة وفق ما هو متوافر حالياً)، ستشكَّل حكومة وستكون بداية مرحلة النسيان لدى الشعب، الّذي في حال عاد الى ما كان عليه قبل 17 تشرين الأوّل 2019، سيفتقد كلمات تتردد يومياً في الوقت الحالي، وفي مقدمها: المحاسبة، التغيير، الشفافية، وقف الهدر، ​محاربة الفساد​... وسيكمل ما تبقى من حياته وكأنّ شيئاً لم يكن، فيما الواقع سيبقى كما هو، وسنعود الى الحلقة الشرّيرة نفسها انما بأسلوب آخر، ارضاء للعالم الذي سيجري علينا تجارب جديدة في المستقبل القريب ويعيد بالتالي استخدامنا كـ"فئران مختبر"، ولن يجد بديلاً لنا في العالم اجمع.