يُكثِر رئيس الحكومة المكلّف ​نجيب ميقاتي​ من إطلالاته الإعلاميّة، فهو يحرص بعد كلّ زيارةٍ إلى ​قصر بعبدا​، ولقاءٍ يجمعه مع ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​، على أن يتحدّث مليًّا وبكلّ مودّة إلى الصحافيّين، تفاديًا كما يقول لأيّ تفسيرات غير دقيقة لصمته، أو تحليلاتٍ غير واقعيّة لسكوته، وحتى لا يُعطى اعتكافه عن الكلام ما يفوق حجمه المفترض، على محدوديّته، ويتحوّل إلى مادة "دسمة" للتحليل، بأوسع تجلياته.

رغم ذلك، تكثر التكهّنات بعد كلّ إطلالةٍ للرجل حول ما قصده بحركةٍ من هنا، وكلمة من هناك، بعدما أصبح "التفاؤل" الذي يكرّر ضخّه والحديث عنه، بمناسبة أو من دونها، "ثابتة"، أو ربما "لازمة"، لا تعكس الواقع الملموس برأي كثيرين. أكثر من ذلك، ثمّة من يرصد حركات "وجهه" ليستخلص "العِبَر"، فإذا كان "مبتسمًا"، يحكي عن "إيجابيّة"، وإذا كان "متجهّمًا"، يبدأ التوسّع في الحديث عن عُقَدٍ ومشاكل.

لكن، بعيدًا عمّا يقوله أو يضمره ميقاتي، المتمسّك بالإيجابيّة المقترنة بتفاؤل قد يكون مفرطًا، ثمّة "تكهنّات" أخرى تنطلق من الأجواء السياسية السائدة في البلاد، والتي وصلت إلى ذروتها في الأيام الماضية، مع السجال "الناريّ" الذي دار بين فريق "العهد" من جهة، ممثَّلاً برئيس الجمهورية ميشال عون ومن خلفه الوزير السابق جبران باسيل، وفريق "​تيار المستقبل​" من جهة ثانية، ممثَّلاً برئيس الحكومة السابق سعد الحريري.

على خلفيّة هذا "الاشتباك"، بدأ الحديث، خصوصًا في الأوساط "العونيّة"، عن دور "سلبيّ" يلعبه "الشيخ سعد"، الذي لا يريد تأليف حكومة من الأساس، وهو لذلك يلعب ورقة "التشويش" على رئيس الحكومة المكلّف، بعدما راهن منذ التكليف على أنّ الشروط التي "يكبّل" بها رئيس الحكومة المكلَّف، ستكون كافية لإخراجه من المعادلة، فإذا به يصطدم في الأيام الأخيرة بليونة ومرونة وإيجابية لم تكن "لا عالبال ولا عالخاطر".

يستند "العونيّون" في مقاربتهم هذه إلى "مفارقة" لا يمكن القفز فوقها، إذ كيف يمكن لمن يقول إنّه يدعم رئيس الحكومة المكلَّف، بل يسعى لتسهيل مهمّته وتقديم كلّ ما يستطيع من مساعدات لإنجاحها، أن يطالب "في ذروة الإيجابية"، بـ"رحيل" رئيس الجمهورية، وهو الشريك المفترض لميقاتي في عملية التأليف، كما أنّ تنحّيه من شأنه أن يخلق أزمة دستورية وسياسية مضاعَفة، تطيح بطريقها بكلّ عملية التأليف "المستعصية".

استنادًا إلى ما تقدّم، يعتقد "العونيّون" أنّ الحريري يواصل، من موقعه، تنفيذ ما كان بدأه يوم كان مكان ميقاتي، لجهة محاولة ضرب "العهد"، تنفيذًا لمخطّط واسع وشامل، علمًا أنّهم لا يفصلون هجوم "الشيخ سعد"، الذي يعتبرونه "غير بريء"، عن قرار حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والذي يعتبرونه هو الآخر "مصوَّبًا" ضدّهم، من حيث التوقيت أولاً قبل صدور ​البطاقة التمويلية​ و​تأليف الحكومة​، ومن حيث المضمون والأهداف ثانيًا.

وفي حين يتمسّك "المستقبليّون" بالبيان الذي صدر عن ميقاتي نفسه، والذي نفى فيه كلّ هذه "التكهّنات"، التي حاول البعض نسبها إلى "مقرّبين منه" عن سوء نيّة كما يقولون، يؤكدون على "متانة" العلاقة بين الحريري وميقاتي، وهو ما أكّد عليه بيان الأخير، وأعاد التأكيد عليه "الشيخ سعد" في تغريدته، منعًا لأيّ محاولات للاصطياد بالمياه العكرة، أو "توظيف" الأمور في غير سياقها العام الواضح للقاصي والداني.

من هنا، يرفض "المستقبليّون" الخلط بين الأمور، فالهجوم الذي شنّه "الشيخ سعد" على رئيس الجمهورية جاء في سياقه، بعد "المجزرة" التي وقعت في منطقة عكار، وأودت بحياة العديد من الأبرياء، والتي أضيفت لسجلّ "العهد" الذي أضحى حافلاً بالكوارث والمصائب، وهو ليس مرتبطاً بأيّ شكل من الأشكال بعملية تأليف الحكومة، التي أصبح الحريري "محيَّدًا" عنها، مع الدعم الكامل لميقاتي، الذي سمّاه وبارك مهمّته.

ويصرّ المحسوبون على الحريري على أنّ "التشويش" على مهمّة ميقاتي لا يتمّ من خلال اشتباك سياسيّ بديهيّ وطبيعيّ، لا سيما بعدما وقعت "القطيعة" بين "المستقبل" و"الوطني الحر"، ولكن من محاولة توظيف هذا الاشتباك لتصوير "مظلوميّة" لا أساس لها من الصحّة، وهي تذكّر بالذرائع التي كان يستخدمها "العونيّون" لتبرير عرقلتهم تأليف الحكومة، عبر الحديث عن "غطاء خارجي" غير متوافر للحريري، وهو ما لا يزال البعض يكرّره حتى اليوم للمفارقة.

وبين موقفي "المستقبل" و"الوطني الحر"، ثمّة من يعتبر أنّ المشكلة هي في الطرحين، وربما في خلفيّاتهما، طالما أنّ "السلبيّة" لا تزال الطاغية، وأنّ الأحزاب التقليديّة لا تزال تبحث عن تسجيل النقاط على بعضها البعض، بدل محاولة التفكير في إيجاد الحلول والمَخارِج للأزمات "الجهنّمية" التي أوصلت البلاد إليها، والتي ارتقى الكثير منها لمستوى الجرائم، كما حصل في الرابع من آب، وتجدّد في الخامس عشر منه في عكار.

بهذا المعنى، فإنّ المشكلة ليست في أنّ "المستقبل" يشوّش على تأليف الحكومة، كما يقول "الوطني الحر"، ولا في أنّ رئيس الجمهورية يتمسّك بشروط "المحاصصة" للقبول بتأليف الحكومة، كما يقول "المستقبل"، ولكن بكلّ بساطة، في أنّ الطرفين لا ينظران إلى الحكومة، سوى من زاوية "المغانم" الضيّقة التي يمكن أن يحصّلاها منها، في إطار "الصراع" الأكبر على "استقطاب" الجمهور، بأيّ وسيلة مُتاحة.

في المبدأ، يُفترَض لجريمة مثل تلك التي وقعت في عكّار أن "تعجّل" في تأليف الحكومة، وكان الأوْلى بعدها بكلّ من عون وميقاتي أن يكثّفا التنسيق والتشاور، حتى يتصاعد "الدخان الأبيض"، إلا أنّ ما حصل كان النقيض تمامًا، ففتحت الجريمة "البازار" السياسيّ على مصراعيْه، لتعود لغة الاتهامات والاتهامات المضادة لتسود، وتظهر المزيد من العقد على أبواب تأليف الحكومة، وكأنّ لا شيء مستعجلاً على الإطلاق!.