بخلاف الأجواء السلبية الظاهرة، ثمة من يعتقد انّ ولادة الحكومة لم تعد بعيدة. فعدا عن أنّ الاطراف المعنية بهذه الولادة قد استنفدت كل انواع وأشكال مناوراتها، وسط بلوغ نقمة الشعب الذروة بسبب اوضاعه المعيشية المزرية، إلّا أنّ عاملين اساسيين أظهرا أنّ السباق الصعب يكاد يصل الى نقطة النهاية:

العامل الاول يتعلق بالأجواء التي رافقت صدور القرار، برفع مستوى دعم المحروقات الى حدود الـ8 آلاف ليرة لبنانية. وفي هذا الإطار هناك جانبان: تقني وسياسي.

ad

في الجانب التقني، تولّى وزير المال غازي وزني مهمة التفاوض مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، طوال الساعات التي سبقت انعقاد جلسة قصر بعبدا، وتمّ التوافق على القرار الذي تبنّاه اجتماع بعبدا، لجهة إعطاء مهلة نهائية لهذا القرار تنتهي في آخر ايلول، على ان يُسجّل فارق المبلغ بمثابة دين على الدولة اللبنانية وليس مصرف لبنان، من خلال فتح حساب خاص لذلك، وأن يُحسم من موازنة السنة المقبلة.

وخلال الجلسة حصل نقاش اتخذ طابع الحدّية في بعض جوانبه، بين رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب ووزني، ذلك أنّ دياب رفض الحل، على اعتبار انّه يعارض اي خطوة برفع الدعم مهما كانت نسبتها، قبل إقرار البطاقة التمويلية، فأجابه وزني أنّ البحث في رفع الدعم بدأ قبل اكثر من 8 اشهر، من دون اتخاذ الحكومة اي إجراء حيال طريقة مواكبته. كما انّ ملف البطاقة التمويلية موجود لدى رئاسة الحكومة منذ مدة، وهو ينتظر الإجراءات الآيلة لتطبيقه.

وفي الجانب السياسي، بدا أنّ هنالك تفاهماً مسبقاً قد يكون «حزب الله» يقف خلفه، ويقضي بـ»إهداء» هذا القرار الى رئيس الجمهورية، على أمل تليين موقفه حيال تشكيل الحكومة. وبالفعل، فإنّ رئيس الجمهورية الذي بقي مستمعاً خلال انعقاد الجلسة، أذاع رسالة الى اللبنانيين تضمنت دفاعاً عن سياسته وهجوماً على الجميع، بدءاً من مصرف لبنان ومروراً بمجلس النواب كما مجلس الوزراء. والأهم انّ رسالة عون لم تلقَ ردوداً من أحد، انسجاماً مع الدعوة القائلة انّ التخفيف من الحرج الشعبي الذي يعاني منه رئيس الجمهورية في الساحة المسيحية خصوصاً، سيساعد في تدوير زوايا الحكومة العتيدة.

أما العامل الثاني، فله علاقة بالأجواء السياسية الخارجية. فخلال الاشهر الماضية ساد همس متواصل عن أنّ الإنفراج الحكومي لن يحصل قبل ايلول. لكن الاسئلة توالت حول اسباب ربط هذه الولادة بأيلول.

صحيح انّ بداية ايلول ستشهد عودة العمل بعد الإجازة الصيفية في آب للدوائر الديبلوماسية في باريس، وخصوصاً في واشنطن، إلّا أنّ ثمة مؤشرات لعودة الاهتمام بالملف اللبناني على مستوى الادارة الاميركية.

ذلك أنّ واشنطن بدأت تركّز خطواتها في إطار استراتيجية احتواء التمدّد الصيني، بدءاً من انتشارها العسكري الجديد في البحر الجنوبي للصين، ومروراً بانسحابها من افغانستان، والذي أدّى الى عودة «طالبان» الى السلطة، وانتهاء بالعمل على إقفال ملف مفاوضاتها مع إيران حول برنامجها النووي. الشعور السائد هو أنّ التعقيدات التي تعوق ولادة هذا الاتفاق في طريقها الى إيجاد الحلول لها. في بكين عيّنت ادارة بايدن سفيرها الجديد وهو نيكولاس بيرنز، أحد اهم الكوارد الديبلوماسية الاميركية، ورغم انّ بيرنز متخصص في شؤون الشرق الاوسط وهو يتقن اللغة العربية، الّا أنّ الاستعانة به في ملف الصين، يعني اولاً بدء حقبة التفرّغ لمواجهة الصين، وثانياً تراجع الاهتمام مستقبلاً بملفات الشرق الاوسط ومشكلاته، انطلاقاً من توقيع التفاهم مع إيران قريباً. وهو ما يعني ايضاً الاتفاق على وقف إطلاق النار في اليمن، وعودة العلاقات الديبلوماسية بين السعودية وايران، وهو ما يحصل من خلال مفاوضات سرية تتولّى احتضانها سلطنة عمان. وهو سيعني لاحقاً ترتيب الوضع في سوريا انطلاقاً من تفاهمات ستنسجها واشنطن مع موسكو وستطاول ساحات أبعد من الساحة السورية.

وبالنسبة الى ملف لبنان، كان من المفترض ان يكون توقيت معالجته بالتوازي مع الملف السوري، لكن الانهيارات المتلاحقة والسريعة للوضع الداخلي، باتت تؤشر الى احتمال انهيار كل ما تبقّى من بنيان الدولة اللبنانية، اضافة الى الخروقات الأمنية الخطيرة التي طاولت الحدود اللبنانية ـ الاسرائيلية، وكادت تؤدي الى منزلقات غير محسوبة، خصوصاً انّها تضمنت رسائل ايرانية وفق القراءة الاميركية. كل ذلك دفع بالإدارة الاميركية الى التعجيل في وضع الملف اللبناني على الطاولة. وخلال الايام الماضية، قرأت واشنطن رسائل ايرانية انطلاقاً من الساحة اللبنانية، كمثل صواريخ الجنوب، وحتى باخرة المازوت الى لبنان، لا بل انّ دوائر اميركية قرأت رسائل ايرانية ايضاً في الخطابين الاخيرين للأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله. أما بالنسبة الى ملف تشكيل الحكومة، فهي كانت ترى على الدوام طيف «حزب الله»، ولكن من دون ان تستطيع التثبت من بصماته.

لكن المهم، انّ عودة العمل في الدوائر الاميركية من المفترض ان يتركز في بعض جوانبه على الملف اللبناني. لا شك انّ ثمة رسائل ستحصل ولو بطريقة غير مباشرة بين واشنطن و»حزب الله»، وقد يتولّى الجانب الفرنسي هذه المهمة، طالما انّ خطوط التواصل مفتوحة بين السفارة الفرنسية والحزب، في وقت بات محسوماً انّ فرنسا ستلعب دوراً اساسياً على مستوى إعادة اعمار لبنان الى جانب اوروبا وبدعم وموافقة اميركيين.

وهو ما يعني انّ الظروف باتت اكثر نضجاً لولادة الحكومة. فالتجارب الكثيرة السابقة تُظهر في وضوح انّ قطار التسويات الدولية في حال انطلق، سيسحق من يقف في وجهه. وتجربة التسوية الاميركية ـ السورية عام 1989 لا تزال ماثلة في الأذهان.

في الواقع، فإنّ ولادة حكومة لا تقوم على أساس المحاصصة الحزبية الفاقعة، ولا تحوي الثلث المعطّل لأي فريق سياسي، ستشكّل بداية الانطلاق في اتجاه مشروع الدولة الجديدة. وهذا ما بات يُعرف بالمبادرة الفرنسية التي تلقت ضربات كثيرة، معظمها بسبب النظرة الفرنسية المبسطة الى الملف اللبناني البالغ التعقيد، لكن هذه المبادرة تشكّل عنوان المشروع الجديد المطروح.

وخلال الأشهر الماضية، همس بعض المهتمين الفرنسيين بالملف اللبناني بحل يقوم على معادلة: تفكيك المؤسسات من اجل إعادة تركيبها من جديد.

بداية الطريق ستكون عبر حكومة قادرة على التواصل مع صندوق النقد الدولي لإعادة بناء مؤسسات الدولة اللبنانية على أسس سليمة وصحيحة.

وهي وصاية غير مباشرة للأمم المتحدة، من خلال أحد اذرعها المالية اي صندوق النقد الدولي. ومن المفترض ان يتولّى خبراء الصندوق الإشراف على إعادة بناء عدد من الوزارات، والتي شهدت دماراً كبيراً في تركيبتها خلال السنوات الماضية. وسيهتم هؤلاء الخبراء خصوصاً بوزارات المال والاقتصاد والطاقة والاتصالات. إلى جانب ذلك، ثمة مشاريع لضبط الحدود اللبنانية على إختلاف اشكالها، الحدود البحرية، من خلال تعزيز وتطوير عمل قوات الطوارئ الدولية البحرية، وكذلك إعادة تنظيم وضبط مطار بيروت وحركة الملاحة الجوية. أما براً فهنالك ترسيم الحدود اللبنانية الجنوبية، إضافة الى ترسيم الحدود البحرية. وهو ما يعني انّ التجديد لعمل قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان في السنة المقبلة، من المفترض ان يشهد تعديلاً في مهماتها، بما يتلاءم مع الاتفاق على الترسيم البري برعاية الامم المتحدة، وتثبيت وقف اطلاق النار. وهو ما يعني أنّ ثمة تطورات متتالية ستشهدها الساحة اللبنانية، وصولاً الى استحقاقين اساسيين وهما الانتخابات النيابية ومن ثم الانتخابات الرئاسية، التي ستفضي الى وصول شخصية الى قصر بعبدا، ستتولّى رعاية وتنفيذ الاتفاقات التي ستحصل. لكن قبل كل ذلك، فإنّ مسيرة الالف ميل ستبدأ من خطوة تشكيل الحكومة وفق المواصفات المطلوبة.