لا يحمل رئيس ​الحكومة اللبنانية​ ​نجيب ميقاتي​ عصا سحريّة في يده، ولا هو قادر على إجتراح حلول فورية تُتيح خروج لبنان من دوّامة الأزمات الإقتصادية-السياسية. إن مؤسسات الدولة مهترئة بالكامل، فكيف تستطيع الحكومة أن تنتشل البلد من الهاوية؟ كل قطاعات الجمهورية اللبنانية مشلولة في دولة لا تعمل مؤسساتها سوى بضعة أيام في الشهر: يوجد ادارات تفتح يوم الاربعاء فقط في كل اسبوع، بسبب عدم توافر الكهرباء ولا ​المازوت​ ولا حاجات المكاتب من أبسط التجهيزات التقنية ولا معدّات ولا قرطاسية ولا ورق ولا حبر لماكينات الطباعة.

أدرك وزراء الحكومة الجديدة عمق أزمة ​الدولة اللبنانية​ منذ اللحظة الأولى التي استلموا فيها وزارات من أسلافهم هي عبارة عن هياكل من دون حياة. انها حقيقة يمكن رصدها مثلاً في ​مؤسسة الكهرباء​ التي لم تقم بالجباية منذ قرابة تسعة أشهر. فكيف تسير الدولة؟ لا اموال في خزينتها يُمكن صرفها، ولا قدرات على فرض هيبة زادت الحكومة السابقة في تهشيمها بسبب طبيعة الأزمة وقلة الكفاية وسوء الإدارة والارباك السياسي والمالي والاقتصادي الذي حطّ كل أثقاله في أزمة معيشية مُتعبة.

ماذا سيفعل ميقاتي؟ يملك تصوراً يترجمه بكل إتجاه، داخلي من خلال خطة اصلاح قابلة للتنفيذ، وخارجي عبر تواصل مفتوح يدشّنه في ​فرنسا​ بزيارة دسمة لباريس التي تحتضن بيروت. لكن العقبات ستواجه رئيس الحكومة الذي سيكون بين نارين: شروط الاصلاح الصعبة التي تقوم على اساس التقشف والترشيد المالي، وهي أولى متطلبات ​صندوق النقد الدولي​، وقدرات اللبنانيين الذين بات معظمهم تحت خط الفقر. لا يمكن لميقاتي ان يدير الأزمة لغاية ​الانتخابات النيابية​ بعد بضعة أشهر. وفي الوقت ذاته لن تستطيع الحكومة أن تفرض علاجاً اصلاحياً مُنتجاً خلال تلك الفترة الزمنية القصيرة.

يُمكن لميقاتي ان يستحضر التجربة الاماراتية التي هي نموذج عالمي ناجح فرضه رجلٌ بات خالداً في التاريخ هو مؤسس دولة الامارات العربية المتحدة الشيخ الراحل زايد بن سلطان آل نهيّان.

كان الاماراتيون في عقود مضت، يعتبرون التجربة اللبنانية هي الأمثل لبناء الدولة، وهو ما عبّر عنه حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ووجب على اللبنانيين حالياً أن يتخذوا التجربة الاماراتية مثالاً لبناء مستقبل بلدهم. فليبدأ ميقاتي من تجربة أبو ظبي ودبي في وضع رؤية ادارية تنموية لإعادة الحياة الى بيروت. يُمكن بكل بساطة إستعارة تلك التجربة الناجحة جدّاً. لن يبخل الاماراتيون على اللبنانيين بإستعانة في هذا الإطار. اذا توفرت النيّة وتمّ طرح المخطط الإنقاذي المُستنسخ من الامارات سيحظى بالدعم الشعبي اللبناني داخلياً والدولي خارجياً، لأنه قائم على مبدأ رفعة الإنسان.

ليس المطلوب من ميقاتي ان يدير الأزمة في لبنان فقط، بل المطلوب هو وضع خطة انقاذ سريعة على كل صعيد مالي واداري وطرح تنفيذها على مراحل قصيرة وبعيدة المدى. فلتكن التجربة الاماراتية نموذج لبنان في تأسيس وتنظيم المؤسسات والخدمات، ثم التدرّج في تطبيق الاصلاح تحت عنوان خدمة المواطن.

اللبنانيون سيصفّقون لرئيس حكومتهم عند البدء بتنفيذ خطة النقل العام، أولاً عبر باصات في المدى القصير تقلل من تداعيات ارتفاع ​اسعار المحروقات​، ثم عبر "المونوريل" (القطار المعلّق على سكّة واحدة) على جسور على المدى الطويل. سيشيد اللبنانيون بعمل حكومتهم عند رفع ساعات التغذية الكهربائية في المدى القصير، ثم عبر بناء معامل طاقة بديلة على المدى الطويل. سيرتاح المزارع عند تأمين اسواق جديدة لتصريف الانتاج على المدى القصير، ومؤازرة المزارعين بتوجيههم وتوزيع زراعاتهم وتأمين سُبل جودتها العالمية. وهكذا دواليك، هناك مسائل لا تحتاج سوى لنوايا وطنية صافية ولمبادرات تنفيذية سريعة. ومن هنا يمكن الاستناد الى تجربة الامارات العربية في توفير احتياجات الناس اليومية في النقل والادارات والخدمات، وتخفيف عذابات المواطنين عبر مكننة كل معاملاتهم.

المطلوب من ميقاتي وضع خطة مؤسساتية متدرّجة: لمدة ستة اشهر، ولمدة سنة، وخمس سنوات، وعشر اعوام. هو رجل دولة من الطراز الأول وإطلع على تجارب دول العالم، ويُمكن له ان يفرض رؤية يبدأ بتنفيذها ثم تُكمل الحكومات من بعده المهام.

اذا استطاع ميقاتي ان يضع خطط عملية، ويُطلع الرأي العام اللبناني على تفاصيلها، فهو سيكون مخلّص البلد من أصعب أزماته. ان الطريق سيعبّده اللبنانيون بأنفسهم في حال لمسوا خير العمل، وهنا يصحّ عندها شعار الحكومة "معاً للإنقاذ". لن تكون المسألة تعجيزية، رغم صعوبتها، لأن الرؤية الواضحة والقدرة الحكومية إن تُرجمت ميقاتياً ستتدرّج الخطوات في الخروج من النفق المُظلم. عندها أيضاً نستطيع ان نخطو كما الامارات العربية المتحدة في مسار يُشبه "مشاريع الخمسين". لم نعد نملك لا ترف الوقت ولا مساحات الخلافات السياسية، فليُبعدها اللبنانيون عن يومياتهم المعيشية والمشاريع الانقاذية الآتية: لا خيارات أخرى امامنا، ألم نجرّبها كلها؟ ماذا انتجت سوى أزمات متلاحقة؟

لم يبقَ لنا الا التجربة الاماراتية في بناء الدولة. فلنُقدم.