رغم السنوات الطويلة التي مرّت، و"انقلاب" المعطيات والظروف في السياسة وغيرها، لم ينسَ اللبنانيون بعد ذلك اللقاء التاريخيّ "الصامت" الشهير الذي جرى بين رئيسي الحكومة الحاليّ نجيب ميقاتي والسابق سعد الحريري في العام 2011، في إطار جولة الأول على "أسلافه" بعد تكليفه، تحت عنوان "مشاورات التأليف".

يومها، كان الحريري قد خرج من رئاسة الحكومة بالضربة القاضية، بعدما "أسقطه" ثلثٌ معطّل وهو في قلب البيت الأبيض، يلتقي الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، لتختار الأكثرية النيابية وقتها ميقاتي لخلافته، من دون أن يسلّم الحريري بالأمر، ما أدّى إلى خسارته "المعركة" بالأرقام والنقاط، وشكّل له "إحراجًا" منقطع النظير.

على وقع هذا الإحراج، اختار الحريري يومها "الاعتكاف"، فغادر لبنان في رحلةٍ طالت كثيرًا، حتى إنّه لم يعد يُرصَد لسنوات سوى "افتراضيًا" من خلال تغريداتٍ دورية على حساباته على منصّات التواصل الاجتماعي، ولا سيما موقع "تويتر"، الأمر الذي انعكس سلبًا على تيّاره السياسي، وأدّى لما يُعرَف بـ"صراع الأجنحة" داخل صفوفه.

صحيح أنّ الحريري عاد بعد سنوات، بـ"لوك جديد" إن جاز التعبير، ونجح نسبيًا إلى حدّ كبير في "تعويض ما فات"، إلا أنّ ذلك تطلّب منهمجهودًا مضاعفًا، خصوصًا أنّ "الاعتكاف" أفرز تباعدًا بين القيادة التي يمثّلها والبيئة الشعبيّة الحاضنة، التي "مالت" لقوى بديلة ظهرت على الساحة، بعضها اختار "التطرّف" عنوانًا في مواجهة "الاعتدال".

مع وصول ميقاتي مجدّدًا إلى رئاسة الحكومة، يستذكر اللبنانيون هذه المرحلة بكلّ تفاصيلها، لا سيّما أنّ البعض يرى أنّ التجربة "تتكرّر" اليوم بشكلٍ أو بآخر، فالحريري الذي حاول تأليف الحكومة قبل ميقاتي ولم ينجح، أصبح خارج البلاد مرّة أخرى، وهو لم يحضر جلسة الثقة في البرلمان، ما دفع إلى التساؤل: "هل اعتكف الشيخ سعد"؟.

قبل الإجابة على السؤال، لا بدّ من التوقف عند الظروف الموضوعية المحيطة، والتي لا تبدو مشابهة أبدًا لتلك التي كانت سائدة في العام 2011، فميقاتي الذي كان "منبوذًا" من الحريري وتيّاره يومها، بل متهَمًا بـ"الخيانة والغدر"، لأنّه قَبِل برئاسة ما وُصِفت بـ"حكومة حزب الله"، أو "حكومة الأمر الواقع"، بات اليوم في مصاف "الصديق"، حتى إنّ تيار "المستقبل" لم يمنح الثقة للحكومة، بل لشخص ميقاتي فقط لا غير، وفق ما قال بعض نوابه.

ولعلّ الفارق الأساسيّ الذي لا يمكن القفز فوقه أنّ تسمية ميقاتي جاءت بـ"مباركة" الحريري، بل هناك من يؤكد أنّه من "زكّاه" نزولاً عند طلب "الثنائي الشيعي" الذي رفض السير بأيّ مرشح لرئاسة الحكومة لا يختاره "الشيخ سعد"، وإن كان البعض "يجتهد" عبر الجزم بأنّ الحريري يوم سمّى ميقاتي، كان يعتقد أنّه سيواجه المطبّات والعراقيل نفسها التي اصطدم بها، وبالتالي لن ينجح في تأليف الحكومة، وسينتهي به المطاف إلى الاعتذار.

وإذا كان هناك من يعتبر "شراكة" الحريري وميقاتي في إطار "نادي رؤساء الحكومات السابقين"، هي "كلمة السرّ" خلف التغيير النوعيّ الذي حصل على مستوى العلاقة الثنائية، خصوصًا أنّ ميقاتي "سلّف" الحريري الكثير من المواقف على امتداد الأشهر الماضية، هناك من يعتقد في المقابل أنّ هذا النادي أضحى "من الماضي" مع تأليف الحكومة، وأنّ الحريري يدرك أنّه كان "المتضرّر الأكبر" منها، في الشكل كما المضمون.

استنادًا إلى ما تقدّم، يبدو واضحًا وجود "تفاوت" في الآراء حول انعكاس تأليف الحكومة، بالشكل الذي حصل على الحريري، الذي وجد نفسه عالقًا بين "تزكيته" تسمية ميقاتي، واضطراره بالتالي لدعمه، وبين تمسّكه بخيار "المعارضة المطلقة" للعهد، وإن كان يُعتقَد أنّه سيفصل بين المسارين، بحيث يتمسّك بعلاقته مع ميقاتي، بالحدّ الأدنى، من دون أن يلزمه ذلك بتأييد الحكومة، ولا سيما من يمثّل "العهد" فيها.

أما إذا كان الحريري قد اختار "الاعتكاف" لتمرير المرحلة، فلا إجابة "حاسمة" على هذه الفرضيّة، بين ترجيح بعض خصوم الرجل هذا الخيار، ولو لفترة مؤقتة، واعتبار مؤيّديه والمحسوبين عليه التسريبات حوله بمثابة "أمنيات" لدى البعض لن تكون أكثر من "أضغاث أحلام"، لأنّ الحريري باقٍ بما يمثّل من حيثيّة شعبية واسعة.

ويعتقد البعض أنّ "اعتكاف" الحريري، إن حصل، له مقوّماته، فالرجل الذي كان يطمح لرئاسة الحكومة بأيّ ثمن، وجد نفسه "الخاسر الأكبر"، في وقتٍ كثُر منافسوه و"المزايدون" عليه، ليس في البيت السنّي فقط، ولكن في بيته الشخصيّ أيضًا، في حين أنّ "الأزمة الأكبر" التي يواجهها تتمثّل في "فقدانه" الغطاء السعوديّ، وهو ما تجلّى بوضوح في مرحلة التكليف، يوم "عجز" كلّ الوسطاء عن ترتيب لقاء له مع أيّ مسؤول في الرياض، ولو من باب "رفع العتب".

لكنّ "اعتكاف" الحريري، حتّى إن صحّ، قد لا "يصمد" طويلاً، لأنّ البلاد مقبلة على "موسم انتخابيّ"، في غضون أشهر قليلة، إلا إذا اتُخِذ قرار بـ"تطيير" الانتخابات، والحريري يدرك قبل غيره أنّ وجوده على الأرض، وبين ناسه، أكثر من ضرورة، حتى لا تتكرّر أيضًا "محنة" 2011، يوم تكبّد عناءً كبيرًا لإعادة بناء الثقة مع جمهوره، الذي وجد ضالته في "القوى البديلة"، بعدما عجز "وكلاء" الحريري عن لعب دوره.

قد لا يكون الحريري "معتكفًا" بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنّ الأكيد أنّ الرجل في مرحلة "مراجعة ذاتية" يرى كثيرون أنّها حتميّة وضروريّة، بل صحّية، للبناء على التجربة، ورسم معالم المرحلة المقبلة، مرحلة لن تكون "يسيرة" على رجلٍ يواجه مأزقًا متمدّدًا، يبدأ من داخل بيته، حيث ينافسه شقيقه على "الزعامة"، ولا يصل إلى "عرّابيه" الذين تخلّوا عنه في ليلةٍ ظلماء، مرورًا بـ"رفاق" التسوية الرئاسية الذين باتوا "خصومًا" وأكثر!.