طوني شاب يضجّ بالحماس. يرتدي قميصاً برتقالية وقبعة برتقالية فرحاً وفخراً. كم كان حلمه كبيرا ! بحجم مشروع سياسي واعد وبحجم فكرة بناء دولة. ينشط في جامعته وفي الشارع، آمن بالمشروع، كما العديد من رفاقه الشباب والطلاب. مندفع من دون حدود. لم يخجل من أن يبيع الخضار من بندورة وبطاطا على قارعة الطريق مع زملائه على مقاعد الجامعة دعما للمشروع ولمبادئه، بانتظار عودة الزعيم من المنفى.

ناضل طوني مع مجموعة الرفاق من أجل عودته. واكبوا نداءاته وخطاباته. كلامه كان المنارة والمشعل. حلموا، صلّوا، أضاؤوا الشموع، ناضلوا بكل الوسائل الممكنة، كتبوا على حيطان الشوارع انه عائد وان لبنان سينتصر. وكم تلقوا من ضربات العصي ثمن كل ذلك. تمّ توقيفهم والتحقيق معهم في أكثر من مناسبة. كانت جريمتهم أنهم حلموا بالسيادة وبوطن يعيشون فيه احرارا. لم ينل كل القهر والمطاردات من عزيمة طوني ولا من رفاقه. وقد رأوا الوعد يتحقق بعودة القائد من المنفى.

قصد المطار مع رفاقه يوم العودة لاستقباله، هللوا له، خفقت له القلوب، اشتدّ الحماس، بدت شعارات السيادة والحرية وبناء الوطن على مرمى حجر. نشطوا في الانتخابات حين استحقت وحقق تيارهم ال​تسونامي​ المنتظر بكتلة من 21 نائبا، ثاني أكبر كتلة في البرلمان. ساندوه في كل ما ارتأى، تغيّرت مواقفه، لكنهم لم يتغيروا، فهو الملهم والمرشد. هو الأمل المتجسد. صفقوا لخطابه وان أصبح مختلفاً عمّا قبل، كما صفقوا لورقة تفاهم مار مخايل، ودافعوا عنها وعددوا بنودها التي رأوا فيها تجسيدا لمطالب قديمة رفعوها، ومنها:

- «الاستقلالية التامة لمؤسسة القضاء واختيار القضاة المشهود لهم بالكفاءة (...)

- «تفعيل مؤسسات ومجالس الرقابة والتفتيش المالي والإداري (...)

- «إجراء مسح شامل لمكامن الفساد، تمهيداً لفتح تحقيقات قضائية تكفل ملاحقة المسؤولين واسترجاع المال العام المنهوب (...)

- «العمل على إصلاح إداري شامل يكفل وضع الشخص المناسب في المكان المناسب (...)

-«(معالجة) ملف المفقودين في الحرب الذي يحتاج الى وقفة مسؤولة تنهي هذا الوضع الشاذ وتريح الأهالي (...)

- «حل مشكلة اللبنانيين الموجودين لدى ​إسرائيل​ من أجل عودتهم الى وطنهم (...)

انها ورقة واعدة يفاخرون بها. وتيارهم ما زال يحقق الانتصارات الشعبية، وقيادته قادت التحالف الى تسونامي جديد في انتخابات 2009، فارتفع عدد نواب التيار إلى 27. انه ​تكتل التغيير والاصلاح​، هذا هو الاسم، وهذه هي شعارات العمل، وهذا هو المشروع الذي طالما حلم به طوني ورفاقه.

لكن ورقة التفاهم لم تُعِد المبعدين الى ​اسرائيل​، ونسيت قضية المفقودين، فيما تفاقمت مشكلة الادارة من خلال ملئها بالأزلام، القضاء بقي ضحية تدخلات السلطة، اما الفساد فحدّث ولا حرج، فيما تضاعفت أرقام المال العام المنهوب، وانهارت الدولة وتفككت المؤسسات.

اعتقد طالبنا أن تطبيق الشعارات يلزمها وصول الزعيم الى سدة الرئاسة. حانت فرصة جديدة، فرصة ​المصالحة المسيحية​، فكان اتفاق معراب الذي رفع الامال وأشاع الراحة في الشارع المسيحي وأعطى قوة الدفع لوصول الزعيم الى السلطة الاولى. اعتقد الناشطون أن المصالحة المسيحية ستعيد تأسيس نواة بناء الدولة، لم يدركوا انها كانت لتقاسُِم الدولة، وان الخناجر كانت تحت طاولة المفاوضات.

جاءت الفرصة مع تسلّم القائد كرسي الرئاسة. هللوا، أطلقوا الاسهم النارية، نظموا تظاهرات سيّارة عجّت بالزمامير ابتهاجا. لقد تحقق الوعد واقترب تحقيق الامال والوعود.

بات التيار ممسكا بالسلطة التنفيذية، مدعوما بسلطة تشريعية وبتحالفات واسعة. حصل على وزارات وازنة، وأجرى تعيينات واسعة، في الوقت نفسه أقصى «المشاغبين» والمشككين من صفوفه، لا مكان للمعارضة في الداخل. أخيراً، يمكن لطوني ورفاقه أن يستكينوا. فقد حانت فرصة بناء الدولة واعادة هيكلة المؤسسات.

لكن طال انتظار الاصلاح والتغيير. فلا الاصلاح أصلح شيئا ولا التغيير غيّر شيئا نحو الافضل. قوّة دفع التيار الجارف لم تذهب في الاتجاه المنتظر. رغم ذلك لم يشأ ان يشكك بقيادات تياره. شاهد الخروقات بحق السيادة، ورأى التواطؤ مع أطراف كانت تصطفّ في المعسكر المقابل، والتي خاض نضالات ضدها في الماضي. واكبَ انشاء وزارة ل​محاربة الفساد​ لم تعثر على فاسد واحد. تفاجأ، لكن من أين له أن يعرف «بالاستراتيجيات السياسية والخطط الرؤيوية». فبقي يضع شاله البرتقالي، ويرفع إصبعَي النصر. لم يأبه بالفراغ الحاصل حول قيادة الحزب. وتغاضى عن مغادرة الكثير من مؤسسي التيار الى صفوف المعارضة.

انها ممارسة سلطة من نوع جديد: «لا حاجة لوضع موازنة عامة للدولة وسنعلّم العالم كيف ندير بلداً من دون موازنة». وعود الكهرباء تبخّرت مع ملياراتها، سدود المياه باتت رمزا لمشاريع فاشلة واعتباطية. الديمقراطية في الحزب التي كانت شعارا طوال سنوات تلاشت مع همّ التوريث. تحوّلت الوعود الى كوابيس، وتوالت تبريرات الاحلام التي تتبخر يوما بعد يوم. بات مَن يعوق الإنجازات، بنظر مسؤولي التيار، هم الاخرون الذين لم يسمحوا له بالإصلاح، وباتت المشكلة في النظام السياسي الذي يحتاج الى تغيير. لا محاسبة ذاتية، ولا إقرار بالفشل ولا إعادة نظر بالأخطاء المميتة التي قادت بلدا الى الانهيار وشعبا الى الجوع والذل.

بات طوني خائبا. كيف عساه أن يبرّر سنوات النضال التي قادت الى لا شيء، لا بل الى الاحباط؟ ماذا عساه يقول لزملاء له كرروا له طوال سنوات أن نضاله لا يصب في مصلحة القضية، بل في مصلحة أفراد يختبئون خلف شعارات لتحقيق مصالح شخصية؟

يا للإحباط! يا للخيبة! يا لحال اليأس عنده وعند المناضلين الصادقين من أمثاله! لم يبق عنده من خيارات أمام انهيار الاحلام والرهانات. سقطت الوعود، تبخرت الآمال بالتغيير والإصلاح وتحقيق السيادة. نزع طوني قميصه البرتقالي، رمى القبعة البرتقالية، وانضم الى صفوف الشباب الذين ينتظرون دورهم أمام السفارات للحصول على تأشيرة ​الهجرة​.