بعد أن فشل رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ في تشكيل حُكومة جديدة تتكوّن من شخصيّات مُستقلّة، أخلى الساحة للنائب ​نجيب ميقاتي​ الذي سارع إلى إقتناص فرصة الوُصول مُجدّدًا إلى السراي الحُكومي. وقيل في حينه إنّ الحريري سينصرف إلى ترتيب شؤون "تيّار المُستقبل" الذي عانى الكثير من الخضّات خلال السنوات الأخيرة، وإلى تحضير الأرضيّة المُناسبة لخوض الإنتخابات النيابيّة، وإلى إستنهاض القواعد الشعبيّة المُؤيّدة للتيّار الأزرق. لكنّ شيئًا من هذه الأهداف لم يتحقّق حتى هذه اللحظة، الأمر الذي فتح الباب أمام جملة من التكهّنات وحتى من الإشاعات، وُصولاً إلى الحديث عن إمكان إعتزال الوريث السياسي لرئيس الوزراء الراحل ​رفيق الحريري​ السياسة، وإلى عدم خوض "المُستقبل" الإنتخابات! فهل هذه المعلومات صحيحة ودقيقة أم أنّها مُجرّد إشاعات للتشويش؟!.

الأكيد أنّ واقع "تيّار المُستقبل" مأزوم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى رئيسه، لأكثر من سبب، علمًا أنّ بعض هذه الأسباب مُشتركة مع باقي الأحزاب والتيّارات على الساحة اللبنانيّة. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:

أوّلاً: "تيّار المُستقبل" فشل في تحقيق الوُعود الإنتخابيّة التي أطلقها عشيّة الإنتخابات السابقة، وفي مرحلة حُكم رئيس "التيّار" سعد الحريري أيضًا. وهذا الأخير إستقال من الحُكم تحت وطأة ​التظاهرات​ والإحتجاجات الشعبيّة الرافضة للواقعين المعيشي والحياتي اللذين وصل اللبنانيّون إليهما. وكل ما سبق يجعل من الصعب خوض الإنتخابات إنطلاقًا من الشعارات والوعود السابقة عينها.

ثانيًا: علاقة الحريري سيئّة جدًا مع المسؤولين السُعوديّين، وهو لم ينجح في كسر جبل الجليد الذي يُحيط بهذه العلاقة، علمًا أنّ التصعيد الحالي بين السُعوديّة و"​حزب الله​" لا يساعد في تمهيد الطريق للتقارب مُجدّدًا، بإعتبار أنّ المملكة تضغط لحمل المسؤولين اللبنانيّين على إتخاذ مواقف حازمة من "الحزب" وسياساته وتدخّلاته. وقيام الحريري بتكرار الخُطابات الرنّانة السابقة، التي تنتقد "الحزب" في الظاهر، بالتزامن مع التنسيق تحت الطاولة معه للعودة إلى سُدّة الحكم، لن تمرّ مُجدّدًا على المسؤولين السُعوديّين. وبالتالي، إنّ الحريري لا يريد قطع شعرة مُعاوية مع المملكة، وفي الوقت عينه لا يُؤيد التحوّل إلى موقع الخُصومة المُطلقة مع "حزب الله"، الأمر الذي يحدّ كثيرًا من خياراته على مُستوى الخُطاب السياسي العام.

ثالثًا: علاقة الحريري سيئّة جدًا مع "التيّار الوطني الحُرّ"، وكذلك مع حزب "القوات اللبنانيّة"، الأمر الذي يجعل من إمكان التحالف مع أيّ منهما لخوض الإنتخابات–كما حصل في دورات إنتخابيّة سابقة، غير وارد. وهذا ما يُصعّب على "تيّار المُستقبل" تحديد المُرشّحين، وعقد التحالفات الإنتخابيّة، ورسم كامل صُورة المعركة الإنتخابيّة، خاصة في ظلّ الضعف الذي طال القاعدة الشعبيّة للتيّار الأزرق.

رابعًا: عدد المُزايدين على "تيّار المُستقبل"، وعلى الحريري شخصيًا، ضُمن البيئة السنيّة، في تزايد مُستمرّ، الأمر الذي يفتح الطريق خلال الإنتخابات المُقبلة، أمام خروج لوائح قد تأكل من صحن "تيّار المُستقبل" نفسه–إذا جاز التعبير، ناهيك عن تنامي شهيّة العديد من مُرشّحي جماعات وهيئات المُجتمع المدني لإستمالة الشارع السنّي الخائب من "الطبقة الحاكمة" ومن "المسؤولين السياسيّين التقليديّين". ومن شأن هذا الواقع أن يزيد الضغط على التيّار الأزرق الذي عليه التمايز بشكل مدروس وذكي، إذا كان راغبًا بعدم خسارة مقاعد عدّة، إن لصالح خُصومه في السياسة الإستراتيجيّة، أو حتى لصالح خُصومه ضمن المحور السياسي الإستراتيجيّ نفسه.

خامسًا: يُواجه كلّ من "تيّار المُستقبل" ورئيسه عجزًا ماليًّا خطيرًا، الأمر الذي يجعل مسألة تمويل الإستحقاق الإنتخابي صعبة جدًا، وربما غير مُمكنة، خاصة بسبب التضييق السُعودي على الحريري، وبسبب خروج هذا الأخير من جَنّة الحُكم. ومن المَعروف أنّ خوض أيّ إنتخابات من دون تمويل، يحدّ من إمكان إغراء شرائح واسعة من الناخبين، ويجعل العديد من المُرشّحين المُتمكّنين ماليًا في موقع فوقيّ.

وإنطلاقًا من كل ما سبق، يُمكن فهم تردّد رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، ومن خلفه "تيّار المُستقبل" في فتح صفحة معركة الإنتخابات النيابيّة لعام 2022، في إنتظار وُضوح الصورة العامة. لكن كل يوم يمرّ من دون ترتيب البيت الداخلي للتيّار الأزرق، ومن دون وضع إستراتيجيّة واضحة لخطابه ولتحالفاته، يُلحق المزيد من الأضرار السياسيّة والمَعنويّة به، مع التذكير أنّ تردّد الحريري السابق، ورماديّة مواقفه، في مُواجهة أحداث ومحطّات ومواقف مُهمّة سابقة، وكذلك سُوء تقديره لجدوى التحالفات التي عقدها والخُصومات المجّانية التي تسبّب بها، أوصلوه إلى هذا الواقع المُخيّب للآمال والذي لا يُحسد عليه! فهل يبقى الحريري مُستقبلاً على تردّده وعلى رماديّة مواقفه وعلى سوء تقديره وحساباته، فيحصد النتيجة نفسها؟!.