مما لا شكّ فيه أنّ الرابط ما بين الأزمة التي يعيشها الشعب اللبناني ومسبباتها الخارجية بالمعنى السلبي للكلمة يشتدّ أكثر فأكثر وفقاً لتطور المشهد الدولي. فالضغوط تخلق شروط مفاوضات عن طريق إعادة تشكيل المشهد السياسي العام في لبنان، وهذا ما تهدف إليه جهات خارجية من خلال الإنتخابات النيابية، وبالتالي العمل على خلق مفهوم الشرعية في مواجهة المقاومة.

والجدير بالذكر أنّ أعضاء محور المقاومة أصبحوا أكثر براغماتية، ومن هذا المنطلق تعلموا كيف يواجهون الضغوط تدريجياً، الأمر الذي يقضي في عدم مجابهتها دفعة واحدة، فالعمل على نتائج الإنتخابات النيابية هدف المقاومة وحلفائها وذلك لتأكيد الشرعية الرسمية والشعبية.

وفي نفس الصدد، أصبحت استراتيجية الدفاع متكاملة أكثر فأكثر، الأمر الذي أوجد أرضية منع إزدياد الضغوط، وأصبح الإتجاه تصاعدياً للعمل من أجل رفعها، لذلك كان تسهيل تشكيل حكومة الرئيس "نجيب ميقاتي"، مواجهةً للضغوط السياسية، والعمل على تخفيف الوطأة الاجتماعية التي سببتها الضغوط الإقتصادية على لبنان. وذلك تماشياً مع المشهدين الدولي والإقليمي، الذي يدفع بإتجاه المفاوضات لا الحرب.

وهذا إنّ دلّ على شيء، فإنّه يدلّ على أنّ الحروب لم تعد تجري كما كانت تجري في السابق، أساليب قتال تقليدية وأثار حرب عشوائية، حيث إنّ شروط استخدام القوة أصبحت مقيّدة، خصوصاً أنّ خوض أيّ معركة والانتصار العسكري فيها، لا يعني أنّ هذا الانتصار حقيقي، بل قد يكون خسارة على المدى الاستراتيجي ولو تمّ احتلال الأرض.

وتماشياً مع ما تمّ ذكره، إنّ التهديد الصيني لأحادية الولايات المتحدة الأميركية في الشأن الاقتصادي، والصيني الروسي الإيراني للجيوسياسية العالمية، دفع بالولايات المتحدة الأميركية لوضع إجراءات وقائية على شكل إنسحابات بهدف الحدّ من خسائرها الاستراتيجية، والاستيعاض عن ذلك عبر دعم أنظمة حكم تابعة لها لمواجهة التمدّد الصيني، والحدّ من الطموحات الروسية.

ولا يفوتنا أن نشير إلى أنّ اللعبة المزدوجة أثناء المفاوضات عبر وضع سقوف عالية في بعض الأحيان، والتساهل في بعض الملفات تهدف إلى تحقيق مكاسب حتى لا ينزلق الوضع إلى المواجهات العسكرية، فنجد المفاوضات بين الصين والولايات المتحدة الأميركية قائمة على الندّية.

فالزحف الصيني نحو الغرب مختلف كلّياً عمّا قامت به الإمبراطوريات الغابرة عبر القوّة العسكرية، لكونه إقتصادي وهو أخطر بكثير من المواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة، على وجه الخصوص أنّه يهدّد تربّع الاقتصاد الأميركي على عرش الاقتصاديات العالمية.

نتيجةً لذلك، تعمل الإدارة الأميركية على القيام بإجراءات داخلية تعيد تجديد وتطوير البنى التحتية المتهالكة، خصوصاً أن أيّ اقتصاد كبير يقوم في دولة متطورة على كافة الصعد.

أمّا فيما خصّ العلاقة مع روسيا، ستعمل الولايات المتحدة على إيجاد تسويات في بعض الملفات، واستقطابها من جهة إلى البقاء على إتصال دائم، ومنع قيام تحالف قويّ بين روسيا والصين وإيران، وبالتالي وجود تجمّع جيوسياسي فاعل، ينهي الأحادية القطبية للولايات المتحدة الأميركية.

فضلاً عن ذلك، تعمل الولايات المتحدة على إعادة هيكلة بعض الأنظمة السياسية في بعض الدول في القارة الإفريقية. أمّا في أسيا، فإنّ هدفها هو تثبيت العلاقة مع حلفائها الإستراتيجيين، والعمل على تحييد بعض الدول عبر المفاوضات، حيث إنّها تتعامل مع إيران كدولة تمتلك سلاحاً نووياً وتحاول الوصول معها إلى صيغة تضمن استقرار الخليج، وإيجاد حلول لبعض الملفات في أسيا الوسطى.

ناهيك عن ذلك، تكمن أساليب تفادي الحروب في الخدعة السياسية، هي من أساليب تفادي الحروب، وبالتالي دفع العدو أو الخصم نحو اتباع أساليب تخدم المصالح السياسية للدولة، فاستراتيجية الدفاع تعني في بعض الأحيان التفاوض بطريقة عدم الغلبة وذلك منعاً للذهاب بإتجاهات ليست مرغوبة.

لذلك، فإنّ حجر الدومينو الذي دفعته السعودية مؤخراً في الساحة اللبنانية، يهدف إلى التدحرج بإتجاه النار اليمنية وبالتالي الضغط على إيران في الملف اللبناني. فالحرب عادةً لا تنحصر في مكان واحد، حيث تكون نار في مكان، وحصار وضغوط في مكان أخر، لذلك فإنّ إستراتيجية الدفاع السعودية هي في الضغط على لبنان، لكي تكون الورقة التفاوضية ضدّ الدبلوماسية الإيرانية أكثر قوّة. فالأفضل إذن هو في الفصل بين الملفات الشائكة مما سمح لبعض الدول بالعمل على إعادة ترتيب العلاقات مع الجمهورية العربية السورية.

وفي هذا الإطار، لا بدّ من التأكيد على أنّ تطوّر دور الدولة السورية في مواجهة الحرب عليها أوجد لها استراتيجية تسمح لها في المناورة والتعاطي مع الدول العربية بطريقة دبلوماسية رابحة بمباركة إيرانية روسية. حيث إنّ البراغماتية التي يتعاطى بها محور المقاومة مع الملفات الدولية والإقليمية، تربك العدو والخصم.

إنّ خطّة الحرب المتّبعة في سوريا كانت توازيها خطّة سلم في لبنان وذلك حتى العام 2019، حيث أصبحت المصالح المادية (الثروة الغازية) محور إهتمام أميركي مباشر، ومصالح استثمارية موضع اهتمام روسي فرنسي أميركي. فالأولويات ترتبط بإستراتيجيات الإستثمار، والتي تشكّل لأيّ جهة فرصة التحرّك بشكل أكبر ومريح في الداخل اللبناني.

وفي هذا الإطار، أصبحت الضغوط الخارجية تعرقل استقرار الاقتصاد، تمنع استمرار التجارة وتدمر التخاطب السياسي العام. تجدر الإشارة إلى أنّ الجهات الضاغطة على لبنان استعملت كلّ الأوراق في الساحة اللبنانية، بدءاً بالمؤسسات الإعلامية والمواقع الإلكترونية، والإعلاميين وغيرهم...، والبعض لا يعلم مخاطر الأضرار الجسيمة لتي قد تنتج عن أفعاله.

وقد ظهرت مؤخّراً أضرار هيمنة جهات فاعلة إقتصادياً ودينياً وإدارياً على المفاصل الأساسية، حيث إنّها تماهت مع الضغوط الخارجية على لبنان كدولة بشكلٍ عام والشعب بشكلٍ خاص.

بطبيعة الحال، سينتهي العام 2021 محمّلاً بملفات تفاوضية ستبدأ نتائجها بالظهور في ربيع العام 2022، خصوصاً مع إجراء الإنتخابات النيابية اللبنانية وتجديد الشرعية الرسمية للمقاومة وحلفائها.