اتجهت الأنظار والاهتمامات نحو ثلاث مناطق في العالم شهدت حشوداً لافتاً للبوارج والغواصات البحرية رفع منسوب التهديد بحصول تصادم عسكري لا يمكن التنبؤ بنتائجه ومدى تأثيره على النظام العالمي الآخذ أصلاً بالتداعي.

المنطقة الأولى

يعتبر التوتر القائم بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، الأكثر أهمية على المستوى العالمي نظراً للسباق الدائر والدائم بين أميركا المستميتة للحفاظ على زعامة العالم من جهة، وطموح الصين المتصاعد، من جهة ثانية، للمضي قدماً في تطوير مجالات التكنولوجيا والاقتصاد وصولاً إلى تزعم العالم ولو بخطوات بطيئة.

لعل وصول التوتر في أعالي البحار بين البلدين، دخل مرحلة خطيرة جداً، هدد بنشوب حرب صورايخ عابرة للقارات بعد استفزازات أميركية قابلها تهديد صيني مباشر باجتياح تايوان وضمها للصين على غرار خطوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جزيرة القرم.

الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أوغل في عدائه للصين وجعلها العدو الأول لأميركا، بيد أن إدارة الرئيس جو بايدن أدرك الانعكاسات الخطيرة لسياسة سلفه ترامب العدائية تجاه الصين ما دفع بايدن لاتباع أسلوب أكثر عقلانية مع الصين معتمداً مبدأ الحوار المتبادل.

حصول الاجتماع الافتراضي بين الرئيسين بايدن والصيني شي جين بينغ كان كفيلاً بتبريد جبهة بحر الصين والمحيط الهادي والانتقال إلى مرحلة إدارة الأزمة بالحوار ولو أن بعض المراقبين وصفها بالحرب الباردة بين البلدين.

المنطقة الثانية

منذ 1991 تاريخ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، شكلت جورجيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء، أي بيلاروس، العمق الاستراتيجي لأمن روسيا الاتحادية ولا نغالي إذا ما قلنا إن تلك المناطق تمثل الخاصرة الرخوة لأمن روسيا الاتحادية.

في العام 2008 حاولت كل من أميركا بالاشتراك مع الناتو جعل جورجيا مرتكزاً لمحاصرة وتهديد الأمن الروسي إلا أن روسيا اتخذت القرار الصعب بغزو جورجيا وإسقاط المنظومة الجورجية ما أدى إلى تدهور العلاقات الأميركية الروسية بشكل خطير.

على مدار العقد التالي لم يكن بوتين يشجع على غزو أوكرانيا أو مهاجمة الديمقراطية الأميركية لكن بعد الغزو الروسي لجورجيا وانتهاء الأمر فيها كدولة فاشلة تحول الاهتمام الأميركي صوب أوكرانيا في محاولة جدية لتطويق روسيا باسم الديمقراطية.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبخطوة بالغة الدقة والذكاء، أدرك ما يرسم لروسيا أميركياً وأوروبياً، فكانت خطوة بوتين بضم جزيرة القرم والاكتفاء بوضع السكان الروس الأصليين ضمن حدود دونباسك، معلناً عن التصميم في الدفاع عن هذه الأخيرة إذا ما تعرضت لأي اعتداء أو تهديد أوكراني يتخطى الحدود.

شهدت المنطقة بين أوكرانيا وروسيا توتراً شديداً وصل إلى الذروة، سببه تصميم أميركي على ضم أوكرانيا وإلحاقها بحلف الناتو، لتكون الخاصرة الأخطر وقاعدة متقدمة للناتو والأقرب على روسيا.

الاجتماع الافتراضي الذي ضم كلاً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والأميركي جو بايدن كان كفيلاً بوضع النقاط الروسية على الأحرف الأميركية بحيث لم يعد بإمكان الأميركي تغيير ما كان يمكن تغييره في شكل قواعد اللعبة المتبادلة بين الإدارتين.

بوتين كان واضحاً في تحذيره، حيث قال: نرفض انضمام أوكرانيا للناتو وإذا حصل ذلك فهذا يعني أن لا مفر من غزو روسي لأوكرانيا كما جرى في جورجيا وإذا حاولتم استفزاز روسيا في البحر الأسود فان الصبر الروسي لن يدوم وهو آخذ بالنفاذ.

نستطيع القول إن القمة الافتراضية بين بايدن وبوتين انتهت برسائل روسية دبلوماسية الواجهة لكنها شديدة المفعول مفادها محاصرة روسيا بصواريخ الناتو أو اللعب بحديقة روسيا الخلفية أمر مرفوض وممنوع، وأن هناك ضرورة لمواصلة التنسيق بين أميركا وروسيا لحفظ مصالح البلدين في مختلف مناطق العالم.

إذاً نتائج القمتين في المنطقتين الأولى والثانية كانت استبعاد لغة الحرب والتوجه نحو الحوار المتبادل.

المنطقة الثالثة

بين أميركا وإيران حرب من نوع خاص فهي حرب إرادات وحرب عقول وحرب تكنولوجية وحرب مفاوضات واتفاقات نووية وحرب عقائدية بالإضافة إلى حرب الثقة المفقودة بين الطرفين.

في العام 2015 توصلت إيران وإدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما مع دول ما سمي 5+1 إلى اتفاق قضى بالتزام إيران التخصيب لمادة اليورانيوم بنسب محدودة، وأن يبقى البرنامج النووي الإيراني تحت المراقبة الدولية لضمان عدم امتلاك إيران السلاح النووي.

بيد أن الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب أعلن في 2018 انسحاب أميركا من الاتفاق ولجأ إلى فرض عقوبات أميركية ومن جانب واحد على أكثر من 1980 شخصية ومكوناً ومؤسسة إيرانية إضافة إلى إعلان ترامب نيته تصفير الصادرات النفطية لإيران، الأمر الذي ادخل أوروبا في إرباك شديد خصوصاً بعد تهديد ترامب بوضع الشركات الأوروبية المتعاونة مع إيران على لائحة العقوبات الأميركية.

واجهت إيران العقوبات الأميركية بشجاعة وبثبات وإصرار وقامت بخطوات تصعيدية ورفعت نسب التخصيب كخطوة للرد على الانسحاب الأميركي من اتفاق 2015.

الرئيس الأميركي جو بايدن أعلن خلال حملته الانتخابية نية الإدارة الأميركية الجديدة العودة لإحياء اتفاق 2015 مع إيران التي اشترطت بدورها رفع كامل للعقوبات الأميركية منتهزة الفترة الزمنية ما بين 2018 و2021 لتصل إلى مستوى أعلى في التخصيب، الأمر الذي استفز حفيظة العدو الإسرائيلي واستنفر دول الخليج.

جولات المفاوضات في فيينا بلغت إلى سبعة من دون الإعلان عن التوصل إلى صيغة اتفاق، خصوصاً بعد اعتماد الإيراني صيغة اللعب على حافة الهاوية، على حين العدو الإسرائيلي استنفر كل نفوذه للحصول على موافقة أميركية بتوجيه ضربة عسكرية ضد مفاعلات إيران النووية.

ولكن ماذا عن احتمال قيام أميركا وإسرائيل بضربة عسكرية جوية للمفاعلات النووية الإيرانية؟ توجهنا بهذا السؤال إلى مسؤول أميركي سابق اشترط عدم ذكر اسمه، وشغل منصباً رفيعاً في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وعمل في دول المنطقة لنحو عقدين من الزمن، فيجيب: أنا متأكد من ثلاثة أمور:

أولاً: متأكد من رغبة إدارة بايدن الفعلية للوصول إلى اتفاق مع إيران، ولا ننسى بأن (مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض) جاك سوليفان و(وزير الخارجية الأميركي) انطوني بلينكن في إدارة بايدن، كانا من ضمن الفريق المفاوض الذي توصل لإبرام اتفاق في 2015 بعهد الرئيس الأسبق باراك أوباما.

ثانياً: متأكد من أن إدارة بايدن لن تكون جزءاً من أي ضربة إسرائيلية محتملة ضد إيران، ولكنها لن تستطيع كبح جماح إسرائيل إذا ما قررت القيام بذلك وبشكل منفرد.

ثالثاً: متأكد من أن إيران ستكون دولة نووية، باتفاق معنا أو من دونه، إنها مسألة وقت فالمشكلة الحقيقية لم تعد في برنامج إيران النووي، وإنما في ترسانة إيران من الصواريخ الدقيقة، وهنا تكمن العقدة وحلها.