لم تعط رسالة البابا فرنسيس التي وجهها لمناسبة عيد الميلاد المجيد، حقها في القلوب كما في وسائل الاعلام. فهي اتت، على الرغم من اهميتها، كصرخة عبرت وانتهى مفعولها. حذّر البابا من امر خطير جداً، وهو امكان تلافي مبدأ الحوار بين العالم، واعتبار الامور المأساوية وكأنّها حدث عادي وطبيعي تنتهي نتائجه مع انتهاء الحديث عنه. عدّد البابا بعض الدول التي تشهد صعوبات ومشاكل، ومنها بطبيعة الحال لبنان وجدّد الدعوة الى اعتماد الحوار للوصول الى النتائج المرجوة، وعدم تقبّل الاحداث المأساوية والتعايش معها والاعتياد على كونها هي الحلّ الناجع، او الحلّ الوحيد المفروض من دون سواه.

هكذا يحبط العالم الدعوة الى خلاصه، وفي لبنان "يتفنّن" اللبنانيون في هذه الخاصة، متناسين انهم بذلك انما يشبهون من يطلق النار على رجله، ويكمل ليصل الى يده وبقية الاعضاء وصولاً الى رأسه واعلان وفاته، كل ذلك ارضاء لشخص يتذرّع بالحجج الطائفيّة والمذهبيّة وحتى السّياسية ليرضي بدوره بعض الدول الخارجيّة التي تعيث فساداً وخراباً بهذا البلد. كل هذه الدول من دون استثناء، لا يهمّها لبنان ولا اللبنانيين، فيما يتهافت عليها غالبية الشعب اللبناني لارضاء خاطرها حتى ولو عنى ذلك التضحية بنفسه!.

هكذا يحبط العالم الدعوة الى خلاصه، و"يضحك" على لبنان، اذ تكاتفت الدول لتمرير مشروع انشاء اكاديميّة الانسان للتلاقي والحوار على أرضه، فيما عملت بالسرّ والعلن الى استثمار الارض الخصبة التي وفّرها ابناء هذا البلد لزرع الشقاق في ما بينهم ويناقضوا كل الحجج التي تمّ تقديمها على أنّهم المكان الامثل لحصول مثل هذا التلاقي العالمي.

هكذا يحبط اللبنانيون الدعوة الى خلاصهم، من خلال تهميش الصفة التي اطلقها القديس البابا يوحنا بولس الثاني على لبنان وقوله: "لبنان هو أكثر من بلد: هو رسالة حريّة ومثل تعدّديّة للشرق كما للغرب"، و"لبناننا هو أكثر من بلد. إنّه، بدعوته التاريخيّة، رسالة أخوّة، حريّة وحوار". من يحاور من في لبنان؟ طاولات الحوار التي عقدت انما اتت بدعوة وبحوافز من الخارج، ومؤتمرات الحوار في الخارج انما راعت مصالح الدول قبل مصالح الشعب اللبناني، وحتى الدعوات الحاليّة للحوار لا تطمئن، لانها في حال عقدت، لن تختلف عن سابقاتها ونتائجها لن تكون مغايرة لتلك التي صدرت في السنوات الاخيرة. والحل الحقيقي لطاولات ومؤتمرات الحوار، يأتي من صلب آلام وشوق اللبنانيين الى التغيير، ولكنه للاسف غير موجود الا عند قلة قليلة منهم ويبقى غير كاف لانجاح دعوة الحوار، فعلى ماذا سيكون الحوار؟ على مبدأ التسوية وتقاسم الحصص؟ ام على مبدأ تأييد دولة على حساب اخرى للوقت الراهن؟ ام على وجوب الخروج من الازمة الحالية بعقلية العودة الى سواها بعد بضع سنوت؟.

قد يجد البعض في هذه الافكار تشاؤماً مفرطاً، وللاسف هم على حق. لانه على الرغم من الاجواء التي يوفرها عيد الميلاد المجيد، والكلام الصادر عن البابا فرنسيس وقبله البابا يوحنا بولس الثاني، تبقى النزعة اللبنانية اكثر ميلاً لتعذيب الذات منها الى الخلاص وتأسيس مسار جديد مختلف كلياً عن المسار السابق الذي ترسّخ في النفوس منذ الاستقلال وحتى اليوم. بهذه الطريقة يجد معظم اللبنانيون انفسهم يبتعدون اكثر فأكثر عن مبادئ واسس الحوار الحقيقيّة، ويحاولون خلق مبادئ واسس جديدة خاصة بهم يعتبرون انها هي الصالحة والقادرة على تحقيق امانيهم وتطلعاتهم، فيما الواقع يؤكد انها تطلعات محدودة الافق ولا تصلح سوى لـ"ترقيع" الازمات وتأجيل تأثيرها ونتائجها الكارثية بضع سنوات، فمتى سنستمع بالفعل الى صوت الله الذي يجدّده كل سنة وكل يوم، ولا يجد من يتبنّاه في القلوب، ولا من يصغي الى ما يقوله البابوات ودعواتهم للسلام والحوار الحقيقي، علّنا نستطيع التمتعّ بعالم لا نعيشه سوى في مخيلاتنا.