عادت "الجبهة" الجنوبية لتتقدّم صدارة الأحداث في الأيام القليلة الماضية، في ضوء "الخرق" الذي نجح "​حزب الله​" في تحقيقه من خلال المسيّرة "حسّان" التي "جالت داخل الأراضي المحتلّة لمدّة أربعين دقيقة في مهمّة استطلاعيّة"، قبل أن تعود سالمة بعد تنفيذ مهمّتها "من دون أن تؤثّر على حركتها كلّ إجراءات العدو"، وفق بيان صادر عن "المقاومة الإسلامية".

سريعًا، على جري العادة، قرّر الجانب ال​إسرائيل​ي الردّ، فحلّقت طائراته على علوّ منخفض جدًا فوق العاصمة اللبنانية بيروت وضاحيتها الجنوبية، ما أثار "هلع" الكثير من المواطنين، ليس بالضرورة لأنّهم ما عادوا "معتادين" على الخروقات الإسرائيلية، ولكن لأنّ انفجار الرابع من آب خلق لديهم "تروما" من نوع آخر، تعود بقوّة مع كلّ "دويّ" يسمعونه.

ولم يكتفِ الإسرائيليّون بذلك، بل عادت لهجة "التهديد والوعيد" لتطبع خطابهم، وهو ما تجلّى في تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي ​بيني غانتس​ خلال ​مؤتمر ميونيخ للأمن​، حيث تحدّث عن محاولات من "حزب الله" لانتهاك "سيادة إسرائيل"، ملوّحًا بـ"الهجوم بقوة في كلّ مكان يستدعي تدخلنا وفي أيّ وقت"، ومحمّلاً الدولة اللبنانية مسؤولية أيّ تصعيد.

فهل فُتِح فصل جديد من المواجهة بين إسرائيل و"حزب الله" فعليًا؟ وهل يبقى "مضبوطًا" بقواعد اللعبة المعمول بها منذ انتهاء حرب تموز 2006، حيث بقيت كلّ جولات الاشتباك "محدودة" في الشكل والمضمون؟ وما "سرّ" التوقيت الملتبس لتفجّر الصراع من جديد، في وقت يبدو واضحًا أنّ الاهتمامات المحلية كما الدولية والإقليمية في مكانٍ آخر؟.

في الداخل اللبناني، سارع خصوم "حزب الله" إلى توجيه أصابع الاتهام إليه بالوقوف وراء جولة "التهديد" المستجدّة، من خلال "استفزاز" إسرائيل عبر المسيّرة "حسّان"، من دون حصول ما يمكن أن يبرّر هذه الخطوة، في مثل هذا التوقيت "الملتبس"، على وقع الأزمات الاقتصادية والمالية المتفاقمة، ومحاولات "الإنقاذ" من خلال التفاوض مع ​المجتمع الدولي​.

ويذهب بعض هؤلاء الخصوم أبعد من ذلك، عبر التلميح إلى أبعاد "انتخابية" خلف خطوة "حزب الله" التي قد تكون "غير محسوبة"، باعتبار أنّ الحزب يدرك أنّ جزءًا واسعًا من جمهوره "ينفر" من أدائه على المستوى الداخلي، ولذلك فهو قرّر إعادة الاعتبار لهويته "المقاومة"، التي ما عاد خافيًا على أحد أنّها ستشكّل عنوان "معركته الانتخابية" بدافع "اجتذاب" المتردّدين من مؤيّدي خطّ المقاومة، والمعترضين على سياسات "الحزب".

لكنّ المحسوبين على "حزب الله" يستغربون مثل هذه التحليلات والتأويلات والتكهّنات، تمامًا كما يستهجنون قيام البعض في لبنان، لا في إسرائيل، بـ"تسخيف" الخرق الذي أحدثته المسيّرة "حسّان"، وهو ما تجلّى ببعض "النكات" التي تمّ تداولها بصورة واسعة عبر منصّات التواصل الاجتماعي، تحت عنوان "توازن الرعب"، من خلال مقارنة العملية مع "الهلع" الذي أصاب اللبنانيين نتيجة تحليق الطيران الإسرائيلي فوق سماء بيروت.

يشدّد هؤلاء على أنّ ما حصل لا علاقة له بالتطورات السياسية، وبالتأكيد ليس "بروباغندا انتخابية" بأيّ شكل من الأشكال، فهو ليس من نوع "الزبائنية" مثلاً التي يمارسها بعض الأحزاب قبل الانتخابات، بل هو عبارة عن استكمال لخطّ واضح لطالما شكّل "أساس" وجود "حزب الله"، وهو الذي يؤكد أصلاً أنّ حضوره في مجلس النواب وحتى في الحكومة، يأتي لـ"خدمة" هذا الخط، وليس العكس.

ويذكّر العارفون بأدبيّات "حزب الله" المشكّكين بأنّ الحرب الأمنية مع إسرائيل "مفتوحة"، وهي لم تنتهِ فصولاً في أيّ وقت، وبالتالي فإنّ عملية "حسّان" الأخيرة تأتي في سياقها، علمًا أنّ اختيار اسم "حسّان" تحديدًا، تيمّنًا بالقيادي حسّان اللقيس الذي اغتالته إسرائيل خير دليل على ذلك، وهم يلمّحون إلى أنّ العملية جزء من "حراك أوسع"، خصوصًا في ظلّ معلومات تتحدّث عن "حرب استباقية" نفّذها الحزب، قبل تحرّك إسرائيلي كان "وشيكًا".

أما التهديدات الإسرائيلية التي صدرت على لسان وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، فلا تعني كثيرًا للحزب، إذ يعدّها جزءًا من "الحرب النفسية" التي يرى أنّه بات "يتفوّق" فيها على "عدوّه"، وقد دلّت على ذلك الكثير من المحطّات في السنوات القليلة الماضية، علمًا أنّ كلّ ما قاله غانتس مكرّر، سواء لجهة رمي الكرة في ملعب الدولة اللبنانية، أو إدخال ​إيران​ على الخط، وهو قد لا يكون أكثر من محاولة "فشّ الخلق ورفع المعنويات" بعد الإخفاق الأخير.

وثمّة من يذهب أكثر من ذلك ليضع كلام غانتس في سياق "أبعَد" من المواجهة مع "حزب الله"، إذ إنّ الرسائل التي أراد إيصالها غير مرتبطة حصرًا بالساحة اللبنانية، بل قد تكون "متقاطعة" مع التسريبات المتزايدة حول مفاوضات ​الاتفاق النووي​ في فيينا، والتي يشير المعنيّون بها إلى أنها باتت "أقرب من أيّ وقت مضى" إلى نهايتها، تكريسًا لسيناريو "إحياء" تفاهم 2015، وهو ما ترفضه إسرائيل، التي تقول إنّها "غير ملزمة" بأيّ اتفاق شبيه.

في مُطلَق الأحوال، يعتقد العارفون والمتابعون أنّ المواجهة المستجِدّة، معطوفة على الرسائل الإسرائيلية، أيًا كانت خلفيّاتها وهوامشها، ستبقى "محدودة" في الزمان والمكان، كما كانت على امتداد السنوات الماضية، لأنّ الطرفين لا يريدان الحرب في الوقت الحالي، ولو أنّ البعض "يجتهد" بالحديث عن العكس، كأن يُقال مثلاً إنّ "حزب الله يسعى للحرب لتأجيل الانتخابات"، وهو ما قد لا يبدو واقعيًا ولا منطقيًا بطبيعة الحال.

يدرك "حزب الله" أنّ الحرب، وإن كان جاهزًا لها متى "فُرِضت عليه" وفق ما يؤكّد قياديّوه في كلّ المناسبات، ليست "مصلحة ولا حاجة" في الوقت الحاليّ، فالبلاد فيها ما يكفيها من مصائب وويلات، وأيّ حرب لن تخفّف من الأعباء، بل ستزيد "الطين بلّة". وفي المقابل، فإنّ الجانب الإسرائيلي في وضعية "ترقّب" للأجواء الإقليمية والدولية، وهو ليس جاهزًا لحرب، قد تضيّع "البوصلة" بالنسبة إليه، على أكثر من صعيد.

في النهاية، يبقى الأكيد أنّ الحرب بين إسرائيل ولبنان، وتحديدًا "حزب الله"، مفتوحة على كلّ المستويات، أمنيًا ونفسيًا وتكنولوجيًا وتقنيًا، وهي تُقفَل بعد، لكنّ "أشكال" المواجهة فيها عديدة ومتفاوتة، تمامًا كخيارات أطرافها على خطّها. وإذا كان التصعيد العسكري الواسع أحد هذه الخيارات بطبيعة الحال، فإنّه يبقى مُستبعَدًا حتى إشعار آخر، وفق ما يؤكد العارفون، لأنّ "الأولويات" في مكان آخر!.