فاقم الوضع الإقتصادي في لبنان، مع ما رافقه من أزمة مالية خانقة، من معاناة النازحين السوريين. وفي خضم مواجهة الظروف المعيشية القاسية، أرخت هذه الأزمة بظلالها على الأطفال ومستقبلهم الدراسي، إذ يواجه هؤلاء تحدّيات خاصة تحول دون تأمين حقّ من حقوقهم الطبيعية، وهو التعليم.

يشير تقرير نشرته منظمة "يونيسيف" في أواخر العام 2021، إلى أنّ "الأزمة العميقة في لبنان تهدّد حقّ الأطفال الأكثر ضعفاً في التعليم"، وتدلّ التوقعات إلى أن "لا يعود 63%، أي ما يشكل 440 ألفاً من الأطفال النازحين، إلى المدرسة هذا العام". كما يلفت التقرير إلى أنّ "التحديّات هائلة وأبرزها نقص المحروقات والكهرباء والمياه، ومحدوديّة توافر ما يكفي من مال لسداد رواتب المعلمين، وعجز الأسر الأكثر ضعفاًعن تحمّل النفقات الأساسية، ومن بينها كلفة الذهاب والإياب إلى ومن المدرسة".

مستقبل الأطفال بخطر...

"ما بكفّي مْعَيَّشْهم بخيمة وكمان ما قادر علّمهم". بهذه الكلمات التي تخفي خلفها غصةً ودموعاً، يختصر م. س. وجعه، فأولاده الثلاثة محرومون من التعليم منذ بداية الأزمة الإقتصادية وتفشّي كورونا في مخيّمات اللاجئين، لأنّ إحدى البلديات ارتأت أن تقفل مركزاً للتعليم في مخيّم بمنطقة الحوش القادرية في البقاع. وقالت إبنته زينب البالغة من العمر 12 عاماً، "أبي وأمي يعملان على تعليمي وأخوتي الكتابة والقراءة بمعدّل ساعة كل يوم، ولكني أفتقد الذهاب إلى المدرسة واللعب مع أصدقائي".

عبد الرحمن ي.، والد لثلاثة أطفال يعمل في البناء في جب جنين في منطقة البقاع الغربي اللبنانية، يروي معاناته: فعلى الرغم من أنّ منظمة الأمم المتحدة تغطّي تكاليف قرطاسية أولاده، إلا أنه لم يرسلهم إلى المدرسة هذا العام إلا لأسبوع واحد، لأنّ بدل نقل ثلاثة أولاد لـ4 أيام في الأسبوع يساوي مجموع ما يجنيه من عمله شهرياً، خصوصاً وأنّ العمل قليل جدّاً بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار. لذلك، فهو لن يستطيع إرسالهم هذا العام إلى المدرسة، آملاً أن يتحسّن الوضع الإقتصادي العام المقبل لكي يتمكّن من إكمال تعليم أولاده الذين تتراوح أعمارهم ما بين 7 سنوات و14 سنة.

عائلة أخرى حُرم أولادها الثلاثة من التعليم بسبب تردّي الأحوال الإقتصادية، فيشير م. م. إلى أنّ ارتفاع إيجار منزله في البقاع بحدود الـ400 ألف ليرة، بالإضافة إلى ازدياد بدل نقل أولاده إلى المدرسة من 150 ألف ليرة شهرياً إلى 50 ألفاً يومياً، قد تسبّبا بحرمان أطفاله من التعليم. "معاشي لا يكفي لكي أطعمهم فقط!" ويشدّد على أنه كان في حيرة من أمره بشأن اتخاذه قرار فصل أولاده عن المدرسة، ولكن بين خيار إطعامهم وتأمين أدنى حاجياتهم، وخيار متابعة تعليمهم، اضطرّ لاختيار الاحتمال الأوّل.

تؤكّد الناشطة في مجال مساعدة النازحين السوريين مزنة الزهوري أنّ "أعداد الأطفال الذين لم يذهبوا إلى المدرسة هذا العام في لبنان قد ارتفعت"، معتبرةً أنّ "السبب الأبرز هو الأزمة الإقتصادية، بالإضافة إلى معضلة أخرى وهي عدم حيازة هؤلاء على الأوراق الثبوتية. فعدد كبير من هؤلاء الأطفال المولودين في لبنان غير مسجلين بصفة قانونية (أي أنهم لا يزالون متكتومي القيد)، بالإضافة إلى فئة أخرى ممّن كانوا يتعلمون في المدارس غير الرسمية والتابعة للمنظمات غير الحكومية. وتشير الزهوري إلى أنّ "هذه المنظمات تقوم بتعليم الأطفال ولكن لا تستطيع إعطاءهم شهادات تعترف بها المدارس الرسمية لكي تستقبلهم، ناهيك عن أنّ المدارس الرسمية ليس لديها القدرة الكافية لاستيعاب كل الأطفال من اللاجئين السوريين بسبب أعدادهم الهائلة خصوصاً هذا العام".

وتعتبر الزهوري أنّ "أبرز ما يواجه الأطفال اللاجئين من تحدّيات تحول دون إمكانية التحاقهم بالمدرسة هو عمالة الأطفال، خصوصاً مع ازدياد الإحتياجات المادية للعائلات في ظل انحسار المساعدات التي تقدّمها مفوّضية اللاجئين هذه السنة، بالإضافة إلى أزمة تزويج القاصرات"، مشيرةً إلى أنّ "كل هذه العوامل هي عوامل إقتصادية إجتماعية بحتة، تضاف إلى العامل القانوني المتعلّق بالأوراق اللازمة للتسجيل في المدرسة الرسمية".

أطفال يعملون لاكمال تعليمهم

على وقع هذه الأزمة، وجدت آية. أ.، ابنة الـ15 عاماً، نفسها أمام خيار واحد وهو العمل. آية التي تسكن في جب جنين البقاعية، اضطرت أن تعمل في مواسم قطاف الزيتون تارةً، وفي مساعدة والدتها في تحضير المؤونة لبيعها لأبناء البلدة تارةً أخرى، لكي تستطيع أن تلتحق بالمدرسة هي وأخواتها الثلاثة. وتؤكّد آية أنّ "إيجار المنزل ارتفع من 400 إلى 800 ألف ليرة، ما أدّى بوالدها ليعمل طوال الشهر على قيادة مركبة "توك توك" كي يؤمّن بدل الإيجار. ولكنه يقف عاجزاً أمام تأمين بدل النقل لأولاده من وإلى المدرسة"، فتضطرّ هي وأخواتها أن يذهبوا إلى المدرسة مشياً، في حين تغطّي، من خلال عملها، مصاريف الكتب والقرطاسية اللازمة لها ولإخوتها.

فاطمة .س. أم للتوأمين وئام وعمر اللذين حُرما من التعليم لمدّة سنة كاملة بعدما ذهب والدهما إلى تركيا وغابت عنهم أخباره تماماً. تقطن فاطمة في بلدة عيناتا الجنوبية وتعمل في تنظيف البيوت. ما تجنيه لا يكفيها سوى لتأمين حاجيات ولديها وبدل إيجار المنزل. لكنها استطاعت، بفضل مساعدة من عائلة لبنانية، ألّا تفوّت هذا العام الدراسي على طفليها. "المساعدة تمثّلت بتسجيل الولدين بالمدرسة وبتأمين القرطاسية لهما، بالإضافة إلى التكفل بتكاليف بدل النقل من وإلى المدرسة".

كي لا يكبروا بلا تعليم...

في ظل معاناة الأطفال المتزايدة، بادرت مجموعة صغيرة من المتطوّعين، عام 2014، إلى تأسيس جمعية "بسمة وزيتونة" لتستجيب لاحتياجات النازحين في لبنان. ومنذ ذلك الحين، عملت الجمعية الناشئة على توفير خدمات التعليم والإغاثة وسبل العيش والحماية لمحتاجيها.

يشير المدير القطري لجمعية "بسمة وزيتونة" إيليو غاريوس إلى أنّ "الجمعية تعمل حالياً على تعليم أطفال النازحين ضمن مركزيها في مخيّمي شاتيلا في بيروت، وبرّ الياس في البقاع"، لافتاً إلى "أننا استطعنا أن نرفع عدد الأطفال الذين يستفيدون من التعليم في أحد المركزين من700 تلميذ إلى 3300".

أمّا خطة الجمعية لهذا العام الدراسي، فتقضي بالاستمرار في التعليم المختلط من خلال جلسات داخل الفصل ومنصّة التعلّم عبر الإنترنت "طبشورة"، "لضمان عدم انقطاع العام الدراسي" على حدّ قول غاريوس الذي يؤكّد أنّ "الأساتذة خضعوا لدورات تدريبية ليخلقوا بعدها نموذجاً تعليمياً يتماشى مع المنهج اللبناني". ويلفت إلى أنه "في عامي 2020 و2021، كان التعليم "أونلاين" بسبب جائحة كورونا، ولكن هذه السنة، أصبح التعليم مدمجاً بين الـ"أونلاين" والحضوري"، مشدّداً على أنه " لضمان أفضل سبل التعليم عن بُعد، يؤمّن المشروع لكل عائلة لوحة إلكترونية أو "tablet"، فضلاً عن تشريج خط واشتراك في الإنترنت، ليتشارك الأخوة باستخدام هذه التقديمات ولتحصيل العلم".

ويشمل مشروع موازٍ الأطفال اللبنانيين والسوريين المقيمين في منطقة النبعة، لا سيّما أولئك الذين توقفوا عن الدراسة، كما الذين يكافحون للتكيّف مع المناهج التعليمية اللبنانية. وقد تمّ اعتماد "طريقة تعليمية مميّزة جدّاً، على حدّ وصف غاريوس، تتمثّل بإرسال فيديوهات عبر تطبيق "واتس اب" ليشاهدها الأطفال، وبما أنّ عددهم قليل نسبياً، أي 104 أطفال، جرى العمل على تنظيم العديد من النشاطات التفاعلية"، علماً أنّ "الجمعية تتكفّل بكل مصاريف التعليم من قرطاسية ونقل وغيرها".

"يتمّ تنفيذ كل هذه البرامج مع "حماية"، أي يرافق المعلّمات في الصفوف ممرّضة ومرشدة إجتماعية ومعالجة نفسية، وذلك لضمان أفضل سبل التعليم، خصوصاً بعد المشاكل المتراكمة التي عاشها النازحون بسبب الحرب وضعف البنى التحتية وعدم توفر سبل متكافئة للعيش وسلامة الغذاء" كما يشدّد غاريوس. "فأطلقت "بسمة وزيتونة" برنامج التربية على السلام كاستجابة لهذه الحاجة، وتقدّم أنشطة بناء القدرات للأطفال الذين يواجهون هذه الظروف الصعبة". ويوضح أنّ "جلسات التربية على السلام تتضمّن النشاطات التفاعلية لتمكين الأطفال من التعبير عن أنفسهم بشكل خلاق وفعال، وتسمح بالتفريغ النفسي، ليتكيّف الطفل بشكل أفضل مع المجتمع المضيف ويكون لديه أمل في مستقبل مشرق يجب أن يرنو إليه".

في سياق متصل، تقدّم "مؤسسة كياني" (kayany foundation)، التي تأسست عام 2013، التعليم المجاني في تسعة مراكز تابعة لها في البقاع. يستقبل كل مركز فئة عمرية محدّدة من الأطفال: خمس مدارس مخصّصة لمن تتراوح أعمارهم بين 5 سنوات و 12 سنة، وأربع مدارس لمن هم ما بين 13 و 18 سنة.

يشير المدير اللوجستي في الجمعية مروان العلي إلى أنّ "كياني هي منظمة محلية لبنانية تُعنى بمساعدة الأطفال السوريين النازحين الأكثر ضعفاً وتأمين تعليمهم لضمان حقّهم الطبيعي بالتعليم اللائق"، لافتاً إلى أنّ "الجمعية مموّلة من مبادرات فردية ومنظمات دولية كالـ"يونيسيف" والـ"يونيسكو" وسواهما، ولكل مدرسة مصدر تمويل خاص بها". ويؤكّد العلي أنّ "المنظمة تعمل لاستفادة أكبر عدد ممكن من الأطفال، إذ توفر حالياً التعليم المجاني لحوالي 3000 شخص موزعين على المراكز التسعة، وتتكفّل بكل المصاريف من تسجيل وقرطاسية وحتى تكلفة النقل من وإلى المدرسة".

جمعية أخرى يستفيد من برامجها الأطفال هي "مابس". "هناك ثلاث فئات يشملها التعليم في البقاع وعرسال: الأولى هي الطفولة المبكرة وتشمل 650 تلميذاً من عمر 4 إلى 6 سنوات؛ ثاني فئة تضمّ الأطفال المنقطعين عن التعليم لمدّة تزيد عن السنتين أو لم يلتحقوا بالمدرسة من الأساس، من عمر 8 إلى 14 سنة، والبرامج المخصّصة لهم هي محو الأميّة وتعليم الرياضيات واللغات ويبلغ عددهم 350 طفلاً. أمّا الفئة الثالثة، فتتمثل بدعم تعليمي يشمل أطفالاً لبنايين وسوريين شرط أن يكونوا من ذوي المستوى المنخفض في المدارس الرسمية وعددهم 520 تلميذاً"، وفق التفاصيل التي يعرضها مدير برنامج التعليم في الجمعية محمد بدران.

خدمات تعليمية مشابهة توفّرها "جمعية سوا للتنمية والإغاثة" التي "تأسّست عام 2012 وهي مموّلة من عدّة جهات هي في غالبيتها جمعيات خارجية، وتنفذ مشروعين: الأوّل برنامج تعليم الطفولة المبكرة الذي يشمل 120 تلميذاً ويختصّ بتعليم الأطفال في صفوف الروضات من عمر 3 إلى 6 سنوات. وقد نالت الجمعية موافقة وزارة التربية والتعليم العالي في لبنان لإعطاء التلاميذ شهادة رسمية تخوّلهم التسجيل بأي مدرسة في الصف الأوّل الابتدائي"، كما يذكر مسؤول القطاع التعليمي في الجمعية مروان أبو شاهين. أمّا "البرنامج الثاني فهو برنامج الدعم التعليمي لأطفال انقطعوا عن الدراسة أو مسجّلين بمدرسة رسمية ولكنهم يواجهون صعوبات تعليمية بسبب الاختلاف بين المنهجين اللبناني والسوري، وأبرزها الضعف في اللغة الإنكليزية، فتعطيهم الجمعية دروس تقوية باللغة لتأهيلهم، بشكل أفضل، للتأقلم مع المنهج التعليمي اللبناني ومتابعة دروسهم بشكل منتظم. عددهم 1420 تلميذاً موزّعين بين 1000 في عرسال و420 في برّ الياس". ويؤكد أبو شاهين أنّ "الجمعية تؤمّن لكل تلميذ التكاليف الكاملة من نقل وقرطاسية وطعام، بالإضافة للثياب الشتوية".

... مبادرات عديدة قد لا تشكل حلّاً جذرياً. فبعد سنوات من اندلاع الحرب في سوريا، وبالرغم من المساندة التي تؤمّنها، ومنذ سنوات طويلة، جمعيات ومبادرات فردية لأطفال النازحين السوريين ليتابعوا تحصيلهم العلمي، إلا أنّ الكثير من هؤلاء لا يزالون محرومين من هكذا دعم. فالوضع الإقتصادي الصعب في لبنان يقف حاجزاً منيعأ بينهم وبين إمكانية متابعتهم للدراسة. خيارهم الوحيد هو العمل سبيلاً محتملاً لينالوا فرصة، ولو ضئيلة، بالتعليم. خيارٌ ينتهك كل حقوقهم... لا فقط بالتعليم، بل بحدّ أدنى من العيش بكرامة!

نضع بين أيديكم أرقام الجمعيات التي ذكرناها في مقالنا لمن يودّ الإستفادة من الخدمات التي تقدّمها:

جمعية بسمة وزيتونة: 76/939238

جمعية مابس: 81/219449 71/051710

جمعية كياني: 78/902642

جمعية سوا للتنمية والاغاثة: 70/888407