نتأمَّل اليوم الذي قَبَضَ فيه الجنودُ على يسوع، بالتناقضِ الرهيبِ بين ما يدبِّرُه الإنسانُ لإبنِ الله وبينَ ما يدبِّرُهُ الله لإبنِ الإنسان. عُظَماءُ الكهنةِ والكَتَبةُ يدبِّرونَ طريقةً للقبضِ بها على يسوع، كي يتخلَّصوا منه، كي يقتلوه. واللهُ يدبِّر سِرَّ الفداءِ خلاصًا للناسِ وغفرانًا ومصالحةً. لَقَدْ لجأ رؤساءُ الكَهَنةِ الى المالِ لشراءِ ضميرِ أحدِ التلاميذِ الذي أحبَّه يسوع مُنْذُ أنِ اختارَهُ. لقد جعلوا من الشخصَ الذي اختارَهُ اللهُ لنشرِ بُشْرَى الخلاص، رجلاً يَحْمِلُ الموتَ بِقُبْلَةٍ، الى مَنْ يَحْمِلُ لَهُ الحياة. لَقَدْ ضَحَّى اليهودُ بمالِهِم وفضَّتِهِم كي يُهْلِكُوا يسوع، ويسوع يُضَحِّي بِنَفْسِهِ حبًّا بِمَنْ غَفَر لَهُمْ لأنَّهم لا يَدْرونَ ماذا يَفْعَلون. وقُبِضَ على يسوع.

نحنُ أمامَ وجهينِ للعدالةِ. الناسُ يحكمونَ عَلَى ابنِ الله بالموت. لعلَّه الردُّ الوحيدُ، على حُكمِ الله على آدمَ بالموتِ بعدما خطيء لأوَّل مرَّة. لقد قرَّرَ الناسُ بلا وعي منهم، معاملةَ الله بالمثل. وَلَكِنَّهم نَسَوا أنَّ الله لَمْ ينفِّذ حُكْمَهُ فِيهِم بل نفذَّه بإبنِه، لأنَّه وَعَدَهُم بالخلاصِ مِنْ الهلاك، وصَبَّ اللعنةَ على الأفعى سَبَبِ الشرِّ، دون أن يَلْعَن الإنسانَ، بل استمرَّ على حبِّه لَهُ. لم تَسْتَطِع عدالةُ الناسِ أن تُشْفَى من جُرْحِ الخطيئَة التي شَوَّهَت الطبْعَ البشريَّ، بينما جاءتْ عدالةُ الله لِتَمْنَعَ عَنِ الإنسانِ الموتَ الذي كانَ نتيجةَ لتلكَ الخطيئة. هاتان الصورتان من صُوَرِ العدالةِ، ما زالتا تتنازعان قَلْبَ الإنسانِ حتى اليوم. فَكَم من مَرَّةٍ نرى الجَوْرَ في الأحْكام، والظلمَ في الحكَّام. وَكَمْ من مَرَّة يرى الناسُ صوابًا ما رأته السلطَةُ خطًا أو رَأَوا ظلمًا حيثُ ترى السلطَةُ عدلاً. إنَّها الخطيئَةُ التي، حَيْثُ تكثُرُ، تجفُّ محبَّة الكثيرين، وَمَتَى جفَّتِ المحبَّة، تنقَلِبُ المقاييسُ فتبتعدُ عدالةُ الناسِ عن عَدَالةِ الله. وحين تعُودُ المحبَّة ويَفْعَلُ الغفرانُ فِعْلَهُ في القلوبِ والعقول، وتعودُ الصورةُ التي شوهَّتها الخطيئَةُ الى بهاءِ حُلْتِها الأولى، ينتفي الشرُّ ويتلاشىَ الظلمُ وتَلْتَقي عدالةُ الناسِ بعدالةِ الله.

وَصَدَرَ حكمُ الناسِ وعُلِّق ​المسيح​ُ على خَشَبةٍ وعُلِقَت فَوْقَ رأسِهِ علَّتُه مكتوبٌ عليها هذا هو ملك اليهود. لقد رَفَضَهُ اليهودُ ملكًا كما رَفَضَ هو، أن يكونَ ملكًا على الطريقةِ التي يريدون. أمَامَ هذا المَلِك المُعَلَّق على الصليب، عَرَفَتِ البشريَّة أمرَين خطيرين، واحدٌ لهذا العالم وآخرُ للعالم الآتي، أمَّا هذا الأخيرُ فهو الخلاص الأبدي. وأمَّا الذي لهذا العالم فهو مفهومُ المَلِك الصحيحِ الذي قد يؤدِّي بالمَلِك الى الموتِ من أجل شَعْبِه، لا أن يُمِيتَ المَلِكُ شَعبَه من أجلِ مآربه ومكاسبِهِ ومآدبِهِ. هنا عَرَفْنْا أنَّ ميزَةَ المَلِك الأولى هي أن يكونَ سَبَبَ سعادَةِ الناس، وأن تكونَ حياتُه قَوْلاً وفِعْلاً في خِدْمَة الناس، كلِّ الناس، المرضى والمعاقين، الفقراء والمعوزين كما الأصحاءِ والأغنياء. هنا نَفْهَمُ ماذا يعني الخيرُ العام، وكيف يضحِّي المَلِكُ بكلِّ مَجْدِهِ ومالِهِ ومَنْ له مِنْ أجل خير الأمَّة. وحده الشيطان يبني مُلكَهُ وملكوتَهُ على جماجم الناس، وحدَهُ الشيطان يزرع الخوفَ والقلقَ والإضطرابَ في نفوس الناس، لأنَّه عدوُّ الفرحِ والسلامِ، وهاجسُه الموتُ والإنقسام.

ملوكُ الأرضِ المُرْتهنونَ للشيطان، يَستسيغونَ قُبْلَةَ الخيانَةِ ويَسْتَعذبون امْتِهان الكرامات:

أيُّ سلطانٍ لهم كي يفعلوا ما يفعلون

أيُّ شعبٍ ينحني ذلاً وما مِنْ كارهٍ ما يصنعون

أيُّ ربٍّ زادهم قدرًا فراحوا ينعمون

حيثُ يشقى الشعبُ مهمومًا

تُآخيه الشجون

ما هُمُ إلاَّ رعاةٌ عانقوا الذئبَ وراحوا يسكرون

يستلذُّونَ عذابَ الشعبِ مُنقادًا سَكُون

أمَامَ الصليب نَفْهَمُ كلمةَ بولس الرسول حينَ وصفَ المسيحَ وما فَعَلَه، فقال: «أخلى ذاته أو أفرغ ذاته». لقد أفرغَ المسيح ذاتَه أوَّلاً من مَجْدِ الألوهةِ حين تجسّد وأخذ الطبْعَ البشريَ بكلِّ ما فيه من ولادةٍ ونموٍ وهو الكمالُ المطلق، من جوعٍ وعطشٍ وهو الخبزُ النازلُ من السماءِ وماءُ الحياةِ الذي لا يَعْرِف العطشَ من يَشْرَبُه، كما أَخَذَ الألمَ والموتَ وهو الجبارُ القوي العزيزُ الذي كان قبلَ كلِّ الدهورِ وسيبقى الى الأبد.

كما أَفرغَ المسيحُ ذاتَه مِنْ مَجْدِ الإنسانيَّة، وهذا المجدُ ليس بقليل، يكفي أن نتأمَّل بالمالِ والسلطةِ وسِعةِ العيشِ والإكتشافاتِ وحبِّ الناسِ وانقيادِهم لواحدٍ منهم. كلُّ هذا أفرغَ المسيحُ ذاتَه منه. فهو مُنذُ الولادةِ لم يولدْ كسائرِ الناسِ في منزلٍ أو على سرير، بل وُلِدَ حيث تعيشُ البهائم وكأنَّه أراد أن يُفْرغَ نفسه من أدنى الكرامات التي وَهَبَهَا الله للناس. وعاش مستورًا حياتَه كلَّها، الى يومِ عمادِه من يوحنَّا. وعانى الآلامَ المبرِّحة، ويومَ الغسلِ غسل أقدام التلاميذِ كالعبدِ يغسلُ أقدامَ أسيادِه وهو السيِّدُ على السماء والأرض. فالغسلُ ليس فقط حدثاً ليتورجيًا ولا فِعْل تواضع كغيره من الأفعال. لقد جَرَتِ العادةُ قديمًا أنْ يغسِلَ المضيف أقدامَ ضيوفه، والرسلُ ما كانوا ضيوفًا، والعبد أقدامَ أسيادِه والرسلُ ما كانوا الأسياد. بقي أنَّ الغسلَ يدخلُ في إطار إخلاء الذاتِ أو إفراغِها من مجدِ الأرض ليصبحَ فعلاً خلاصيًا يدخلُ في صلبَ الآلام الخلاصيَّة، كما يدخلُ باب التعليمِ الذي أراده المسيح أداة لتبديل كبرياء آدم بالإتضاع والخدمة. وجاءت الآلام لتأخذَ من المسيح كرامته كإنسان فامْتُهِِن واحتُقِرَ وكُلِّلَ بالشوكِ وهو الذي كلَّل الأرض بالكواكب المنيرة. وصُلب على خشبةِ العارِ التي خُصِّصَتْ للمرذولين الذين رَفَضَهُم أقربُ الناسِ لَهُم وأُهْرِق دَمُهم. ومات المسيحُ ودُفِن ولكن أين؟ في قبرٍ بالإعارة، لقد أخلى المسيح ذاته من كلِّ مجد الأرض حتى ساعةَ دَفْنَتِه، لأنَّه لم يُدْفَن كسائر أبناءِ الكرامات في مدفَنٍ خاص أو في مدفنِ العائلة أوالمدافن العامة، بل دُفِنَ في مدفن بالإعارة ربَّما بناه يوسف الرامي ليكون مثواه الأخير. كلُّ هذا طاعة وحُبًّا.

لقد كان من الممكن أن يخلِّص المسيح العالمَ بلا ألم، ولكنْ هلْ يمكنُ أن يخلِّصه دون المحبَّة العظمى التي تجلَّت على صليب الألم؟ حين صرخَ المسيحُ مصليًّا «إلهي إلهي لماذا تركتني»، عبَّر، ليس فقط عن حبِّه لأبيه الذي يصلي له كما فعل دائمًا، بل عن أقسى درجات إفراغ الذات وأقصاها. إنَّه الإحساس بأنَّ الله قد تركه وأنَّه وحدَهُ أمام الموت، فلا الناس الموجودونَ يعزونَّه ولا الله يلتفتُ اليه. ولكنَّ الله لم يكن بعيدًا عن هذه الصورة ولا عن الآلام التي يعانيها وَحِيْدُهُ. وكأنني به ينادي شعبه قائلاً : ماذا أرادَ شعبي ولم أفْعَلَه له، أيُّ شيءٍ يصنَعُ الكرَّام للكرْمِ ولم أصنعه؟ فما بالي انتظرتُ أن يُثْمِرَ عِنَبًا فأثمر حصرماً برِّيًّا.

ألم أحرِّرك من ​العبودية​ في مصر الفرعون؟ فلمَ تأسر وحيدي وتقيُّده بالسلاسل؟.

ألمْ أسقِك في صَحْراء العطشِ ماءً لتحيا؟ فَلِمَ تَسْقي وحيدي خلاً؟.

ألم اُلبسك ثيابًا من جِلْدٍ بعدما اكتشفْتَ عريكَ؟ فلمَ تعرِّي وحيدي معلَّقًا على الصليب؟.

ألمْ أفتحْ أمامَك البَحْرَ الأحمر؟ فلمَ فَتَحْتَ جنبَ وحيدي بالرمح؟.

هذا النداء يشتعل في قلب الإنسان، إذا ما رأى ماذا صَنَعَتْ يداهُ واستفَاقَ من غيِّه وبغيه، فيرعوي ويخاف. أمَامَ الصليب. قد لا يخافُ الإنسان من الألم، بِقَدْرِ ما يخافُ من وَجْهِ البراءة الذي ينظرُ اليه، فَيَرى خطاياه وقد سُمِّرت مع المسامير، وَغَرَزت شوكًا مع الإكليل وَجَرحتِ القلبَ مع الرمح، فيدركُ عندها كلمةَ بولس الرسول: المسيحُ لم يَعْرِفِ الخطيئةَ ولكنَّ الله جَعَلَهُ خطيئةً من أجلِنا كَيْمَا بِهِ تَتَحَقَّقُ عدالةُ الله.

أمام الصليبِ، سَمِعْنا المسيحَ يقول: يا يوحنَّا هذه أُمُّكَ مشيرًا الى مريم، ويا امرأة هذا ابنُكِ مشيرًا الى يوحنَّا. هُنا، وَبَعْدَ هذا الكلام النابعِ من قلبِ الفداء، الذي مَحَى صكَّ الخطايا، آدمُ الجديد يٌظْهِرُ طاعته المُطْلَقة وحبَّه الكاملَ لأبيه ويقرِّب نَفْسَهُ قربانًا عَنْ خطايا الجِنْسِ البشريِّ بأسره. هُنَا أُعِيدَ ترتيب الخَلْقِ الذي خرَّبتْهُ الخطيئَة. ومع الصليبِ لَمْ يَعُدِ العهدُ مع إبراهيمَ عهدًا كافيًا. فحينَ كلَّم الله ابراهيمَ وعَده، وعاهده، على أن يكونَ له إلهًا ويكونَ إبراهيمُ له شعبًا. عاهَدَهُ على أنْ يُكْثِرَ نَسْلَه كَرَمْل البَحر، لأنَّه يُريدُ أن يُعِدَّ شَعبًا مِنُه يأتي المخلِّص الذي نراه اليومَ على الصليب. وَعْدُ الله لإبراهيم كان أن يتكاثر بالجسد، بالولادة الجسديَّة والتناسُل الطبيعي. أمَّا هنا، أمامَ الصليب حيث تمَّ العهدُ الجديد، فكانَ الوعد لمريم، حواءَ الجديدة، أن تكون أُمًّا لذريَّة روحيَّة تأتي بلا آلامِ الولادةِ التي كانَتْ عِقابًا لحواءَ الأولى، على خطيئتها وعصيانها. مريم هي الكنيسةُ، هي أورشليمُ السماويةُ التي تلدُ بالمعموديَّة للحريَّة أبناءً روحانيين قادرينَ على أن يكونوا سماويين، ليُكْمِلُوا حياتَهُم الى الأَبدِ مع الإبن والآب والروح ​القدس​. أمَّا أَبناءُ إبراهيم فهُمُ هُمْ، أَبناء آدم الترابي، الذين إن لم يَدْخُلوا سرَّ التبنِّي الذي أعْطَاه المسيحُ ليوحنَّا أَمام الصليب، ظلُّوا ترابيين لأَنَّهم أبناءَ الترابي. هُنَا فَهِم نيقوديمس كلامَ المسيحِ له مَنْ لم يُولَد من جديدٍ لا يدخلُ ملكوتَ الله.

فيا أيُّها المسيحُ الذي فتح ذراعيه على الصليبٍ ليَجْمَع أبناءَ الملكوتِ من الأقطار كلِّها. يا مَنْ قُلْتَ: إذا ما ارتَفَعْتُ رَفَعُت إليَّ كلَّ أحد. نسألُك بشفاعة أمِّك الواقِفَة أمامَ الصليب، ترى مَوْتَك وتَذْكُر كَلاَم الملاكِ أَنَّك سَتَمْلِكُ على بيتِ أَبيكَ الى الأبد، نسألُكَ أَن تَجْعَل قلوبَ البَشَر أجمعين تُفْتَح للروحِ القُدُسِ فيؤمنوا أَنَّك أنتَ ابنُ الله الحي الفادي، لأنَّه لا لَحْمَ ولا دَمَ قادرٌ أن يُعَرِّفَهُم على الحَقِّ بدُونِك.