تسعى ​النقابات​ التي تعمل بطريقة صحيحة إلى تحسين الأجر الحقيقي للأفراد، لا قيمة الأجر الإسمي، وذلك أن زيادة ​الأجور​ لا يجدر أن تحصل بطريقة عشوائية لأن لها نتائج كارثية على المجتمع بأكمله وعلى جميع المقيمين فيه، ومنهم الأجراء أنفسهم الذين زادت أجورهم. ونعني بالأجر الحقيقي، قيمة ما تشتري قيمته من سلع وخدمات، وبالتالي يؤمّن حدّا وسطيّا للمعيشة يختلف بإختلاف الأفراد وانتاجيتهم. ويعمل أصحاب العمل وهم هنا الشركات (​القطاع الخاص​) أو المؤسسات المملوكة للدولة (​القطاع العام​) بتحسين التقديمات التي يحصل عليها موظفيهم، ومنها: ساعات العمل، التقديمات الإجتماعية، الطبابة، التعليم، النقل، العطل، وغيرها.

إلا أنه في لبنان فالأمور بالطبع معاكسة، فيحدث كل شيء بطريقة عشوائية، وإلا لما وصلنا إلى القاع الذي نحن فيه، ومنه ما يعرف بزيادة الرتب والرواتب التي حدثت عدة مرات بدون أي حسابات دقيقة وما رتّب على البلاد عواقب وخيمة. إلا أنّ ما يدفع للاستغراب أن يقوم مصرف مركزي مهمته عالميا تتلخص في أمرين اثنين: حفظ قيمة العملة الوطنية، وخفض نسبة ​التضخم المالي​ في البلاد. ما يثير العجب أن يُصدر هذا ​المصرف المركزي​ في لبنان، لقرارات تزيد نسب التضخم، وتؤدي بانهيار العملة الوطنية التي مهمته حمايتها. فأصدر في وقت سابق بعد أن أنهى موظفو القطاع العام اضرابهم الذي استمرّ لعدة أسابيع وعادوا إلى مزاولة أعمالهم، أصدر قرارًا قضى بمضاعفة أجور أفراد السلك القضائي أكثر من خمس مرّات، ما دفع موظفي القطاع العام إلى طلب مساواتهم بالقضاة، وأعلنوا عندها اضراباً جديداً للبلاد! وبالتالي شلّ الإدارة العامة مرة جديدة مع ما يرتّب ذلك من توقف الخدمات العامة، وانخفاض في مداخيل الدولة.

إلا أننا هنا، علينا أن نسأل ​مصرف لبنان​ ودائرته الاقتصادية، من قال ان الأجر الحقيقي الذي يناسب الموظفين في القطاعين الخاص والعام، هو نسبة ما كانت رواتبهم عليه مع منتصف عام 2019 وبما تساويه على سعر صرف 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد؟ من قال ان هذا هو متوسط الأجور الذي يجب أن يتقاضوا عليه رواتبهم اليوم أو غداً أو حتى أنها كانت محقّة حينها عام 2019!.

الأجر هو قيمة العمل الذي يقوم به الفرد. بناء لأيّ معيار يجب أن يكون أجر من يقوم بهذه المهمة مليون أو مليونان، أو ربما عشرة ملايين؟ هل يمكننا احتساب إنتاجيّة العامل؟ وانتاجيّة القطاع وعائداته؟ مثلاً، لنعتبر أننا نمتلك مدرسة وأن فيها أساتذة في العلوم واللغة والرياضيات، وأن الطلاب يحققون نتائج عظيمة في اللغات إلا أن نتائجهم كارثية في الرياضيات، هل عندها يجب أن يتساوى أجر أستاذ اللغات والرياضيات! أم لا؟ هذا معيار.

المعيار الثاني، لنعتبر أن شركة تحقق مليون دولار ربحًا صافيا سنويا، وأن شركة أخرى مفلسة، والشركتان تعملان في ذات القطاع وفي ذات الدولة، هل يجب أن يتساوى أجر العامل في الشركة الرابحة مع أجر العامل في الشركة التي تحقق نتائج سلبية!؟.

أيضا، هناك اعتبارات ذاتية يحققها الفرد ويمكن بناء عليها أن يكون له مطالبات قد يتم تحقيقها أم لا. لنعتبر طالبًا تخرّج من إحدى أعرق جامعات الكون، هل يجدر أن يتساوى أجره مع شخص تخرج من جامعة في أسفل سلّم تصنيف الجامعات في العالم. أو لنعتبر أن أحدهم متخرج باختصاص نادر، هل يتساوى أجره مع المتخرج باختصاص فيه عشرات آلاف الأفراد وبالتالي لا قيمة مضافة لما يحققونه!؟.

وفي حالة الاقتصاد الكلّي، لنتجاوز جميع ما ورد من معايير حقيقية للتصنيف، إلا أنّ هناك معيار العرض والطلب في بلد ما، وفي زمن ما. يوجد اليوم في لبنان عشرات آلاف الموظفين في القطاع الخاص والذين يحقّقون أجورًا يقبلونها، ويعملون مقابلها بتفانٍ، ما ينعكس على مؤسساتهم ربحيّة. كيف يمكن تجاوز حالة القبول العام والرضى ومضاعفة أجور العاملين في القطاع العام بما يتجاوز أضعاف ما يتقاضاه اليوم الموظفين في القطاع الخاص! ألن يدفع هذا الأمر إلى حالة إنكار وتململ لدى الآلاف في القطاع المذكور، وبالتالي إضرابات جديدة، وإجبار شركات على الإغلاق وتسريح موظفيها!.

الأجر لا يتحقق بناء لما يرغبه الأجير، أو من ينوب عنه. بل نتيجة عوامل كثيرة، بعضها ذكر في مقالنا هذا، وتبقى آليات السوق هي من يحدد الأجر، أما من يرفض أجره، يمكن له أن يفتح عملاً خاصاً إضافة لعمله الثابت، أو أن يطوّر من قدراته العلميّة والتقنيّة، ليأخذ أجراً أعلى، أو أن ينتقل إلى قطاع آخر، وهذا ما يتيح الانتقال المرن بين القطاعين العام والخاص.

هذا لا يعني أن نقف متفرجين على إنخفاض الأجر الحقيقي، يعني أن نزيد من قيمة التغطيات الصحية، ونحسّن من جودة التقديمات التعليمية، ما يزيد الأجر الحقيقي للموظف، إلا أنه لا يكون من نتائجه مفاعيل تضخميّة على البلاد، ولا يؤدّي بالتالي بانخفاض قيمة العملة الوطنيّة، ولا في زيادة نسبة البطالة ولا في رفع معدلات الفقر.

*اقتصادي