أشار النائب العام في الرهبانية اللبنانية المارونية والرئيس الفخري لجامعة الروح القدس - الكسليك الأب جورج حبيقة، الى أن "فاجعة كربلاء تدعونا اليوم قبل الغد إلى حتمية تنقية الذاكرة، وكربلاء المتّشحة السواد تستصرخنا اليوم، نحن أبناء وادي الدموع، حتى ننفض عنا رماد الماضي المغموم وندشّن حضارة جديدة تُنبت السلام الدائم وتـُخصبه في مساحات المحبّة والرحمة، والحريّة والشورى، والتّحاب والتآخي، والفرح والسعادة".

ولفت حبيقة، خلال خطابه في مراسم عاشوراء في احياء الجمعية الخيرية العاملية لليوم العاشر من محرم في مبنى الجمعية العاملية برأس النبع، الى أن "مقتلَ الإمامِ الحسين بنِ علي وأصحابِه ورجالِ أهلِ بيتِه يدعونا إلى التفكّر مليا في تاريخ البشر الكئيب والصراع الدهري بين ثقافة الحياة والمحبّة والتلاقي والتحاور والمعروف والصبر والتضحية والحرّية والعمل الدؤوب على الإصلاح المستدام وإحلال العدالة والسلام والرحمة والمساواة، من جهة، والإدمان على منطق العنف والقتل والقهر والاستبداد والظلم والتهميش والإلغاء، من جهة ثانية".

وذكر أن "فاجعة كربلاء إن هي إلا تغليبٌ لمنطق العنف وإلغاءِ الآخر والفكر الآخر، وإسقاطٌ مدوٍ لمبدأ الشورى، مبدأ التحاور وأخذ الرأي والسعي إلى بلورةِ رؤىً مشتركة، بعيدا من أسلوب الشدّة والغُلظة. على الإنسان أن يعالجَ جميعَ شؤونِ حياته (عبر الكلمة) التي وحدَها تتآلفُ بشكل كامل مع جوهره الإنساني ومع علاقته بربّه وباريه. بالنسبة للإنسان العلائقي، لا شيءَ يعلو على الكلمة أو يسمو عليها. إنها البدايةُ والنهاية. من هنا أيُّ إسكاتٍ أو إخراسٍ للكلمة وأيُّ لجوءٍ إلى العنف إنما هو هزيمةٌ نكراء للإنسانية التي ننتمي إليها. فالشورى والإنسانيةُ متلازمتان لا تنفصلان".

وأكد حبيقة، أن "مأساة كربلاء هي محاولة يائسة لإلغاءِ حرّية الرأي والموقف، واستبدالـِها بفرض الفكر الواحد وإرساء مبدأ وحدة الشكل وإلغاء الفروقات. فالحرّيةُ هي وحدها التي تجعل من الكائن البشري إنسانا. والحرّيةُ تتجسّد في خيارات متعدّدة. لذا من يتوهّم أنه بصهر الرؤى والطروحات في بوتقة الفكر الأحادي والشمولي، وبالإكراه على تبني موقف واحد وسياسة واحدة، يحقّق علنا ما خطّط له سرا في قلبه، لن يتأخر طويلا حتى يُدركَ بمرارة أن لا قيمةَ لأيّ شيءٍ إن لم يكن ممهورا بالحرّية غيرِ المنقوصة والاقتناع الكامل".

وشدد على أن "الانصهارُ هو النقيض لنواميس التنوّع التي وضعها اللهُ، جلَّ جلالُه، في أساس الوجود الحسي. إن الانصهار مصطلحٌ يُستعمَل، أصلاً وحصراً، للمعادن التي تدخل متنوّعةً إلى الأتّون لتخرج منه شكلاً واحداً ولوناً واحداً وتركيباً كيميائياً واحداً. فالمجتمعات المؤنسنة لا تعيشُ مطلقا هذه الحالةَ الانصهارية المذوّبةَ لحقِّ الآخر في الاختلاف. ليست أوطانُنا وبلدانُنا مشروعاً كربلائيا، بل دائماً مشروعُ مألفةٍ إنسانيّةٍ ووطنيّةٍ بين عائلاتٍ روحيّةٍ ومجموعاتٍ إثنيّةٍ وثقافيّةٍ وحضاريّة، على شاكلة وحدة الجسد القائمة على التكاملِ الوظائفي بين خلايا وأعضاءٍ لا يجمعُها إلاّ الاختلافُ في التآلف".