مع دخول البلاد المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وبدء العدّ العكسي بالتالي لانتهاء ولاية ​الرئيس ميشال عون​ في غضون أقلّ من شهرين، اعتقد كثيرون أن "استنفارًا سياسيًا" سيُسجَّل من أجل "تمرير" الاستحقاقات بالتي هي أحسن، من خلال تأليف حكومة اليوم قبل الغد، من باب الاحتياط أقلّه، لتفادي "الفوضى الدستورية" التي يبشّر بها البعض، وبدء النقاش الجدّي بملف الرئاسة، والمرشحين القادرين على إحداث "خرق".

لكنّ شيئًا من كلّ ذلك لم يحصل في اليومين الماضيين، فـ"الأولوية" كانت في مكانٍ آخر، وتمثّلت في "سجال سياسي" جديد، في غير زمانه ولا مكانه، بدأ من كلمة رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر، مع ما حملته من "تصويب مباشر" على "التيار الوطني الحر" ورئيسه الوزير السابق ​جبران باسيل​، ومن خلفهما رئيس الجمهورية نفسه، ولا سيما من خلال الهجوم على شعار "ما خلونا" الذي يتلطى خلفه الأخير.

وإذا كان هجوم بري شمل أيضًا الملف الحكوميّ، برفضه فكرة "التوسيع" التي يطرحها "التيار"، كما تصدّيه للفتاوى والاجتهادات "غبّ الطلب" التي لوّح بها باسيل أخيرًا، حيث ذكّر رئيس البرلمان الجميع أنّ مجلس النواب هو "المخوّل" بتفسير الدستور، جاء الرد "الضمني" من باسيل، على شكل "تغريدة" في مناسبة ذكرى إعلان لبنان الكبير، عبر الدعوة إلى "تغيير النظام"، طالما أنّ من وصفهم بـ"الحاقدين" لا يريدون "دولة قوية".

فما خلفيّات السجال القديم الجديد بين بري من جهة وعون وباسيل من جهة ثانية، في وقت يحكى عن "وساطة حكومية" يقودها بري مع "​حزب الله​" لتقريب وجهات النظر وتسريع تأليف الحكومة؟ أيّ أفق لهذا الخلاف المتجدد، على وقع الأزمات المفتوحة والمهل الدستورية الضاغطة على أكثر من مستوى؟ وهل يكون الحلّ فعلاً بـ"تغيير النظام" كما يطرح باسيل، رغم أنّ كل المحاولات السابقة في هذا المجال "باءت بالفشل"؟!.

في المبدأ، لم يكشف "السجال" بين بري وباسيل، ولو بقي "مشفّرًا" ومن دون تسميات مباشرة، أيّ جديد على خط العلاقة "غير السوية" بين "حليفي الحليف"، حيث إنّ القاصي والداني يدرك طبيعة "الكيمياء المفقودة" بين الجانبين، والتي لم يستطع "حزب الله" على امتداد السنوات، رغم كل ما له من "مَوْنة" لديهما، في ترطيبها، أو بالحدّ الأدنى إخفاءها عن الأعين، رغم نجاحه في بعض المحطات في تكريس "هدنة إعلامية" سرعان ما تعود وتنفجر.

في هذا السياق، جاء هجوم بري على "التيار" في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر متوقَّعًا، فحتى لو كان الرجل "صائمًا عن الكلام" طيلة الفترة الماضية، إلا أنّ القاصي والداني كان يدرك أنه لا يوافق "التيار" في ما يذهب إليه من اجتهادات وفتاوى، بل "بدَع" وفق رأي المحسوبين على "الأستاذ"، الذين يلفتون إلى أنّ الأخير مرّر في خطابه الكثير من الرسائل "الحازمة والصارمة"، خصوصًا في ظلّ الخطورة التي تنطوي عليها بعض "السيناريوهات".

ولعلّ أهمّ ما قاله بري في هذا الإطار، يتمثّل في تذكيره بدور مجلس النواب في تفسير الدستور، في ردّ ضمني على "الفوضى الدستورية" التي يلوّح بها "التيار"، إلى أن وصل الأمر بباسيل أن يلوّح بأمور يعرف أنّها غير دستورية، وفق ما يقول هؤلاء، ولكنه يبرّرها باعتباره أنّها تأتي ردًا على أمور لا يراها هو دستورية، ربما وفق مقولة "بيي أقوى من بيّك"، الذي قد يصبح "أسوأ" من شعار "ما خلونا" الشهير، إذا ما قُدّر له أن ينفذ مخططاته.

لكنّ المحسوبين على "التيار" يعتبرون في المقابل، أن "الهجوم الناري" الذي شنّه بري على "العهد" في خطابه لم يكن موفَّقًا، ليس فقط لأنّه بنى على تكهّنات وسيناريوهات، سبق لمكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية أن نفاها جملةً وتفصيلاً، ولكن قبل ذلك، لأنّه حوّل نفسه من "وسيط مفترض" في الملف الحكومي إلى "طرف"، خصوصًا برفضه فكرة "تطعيم" الحكومة بوزراء سياسيين لا يُراد منها سوى منحها "غطاء" ستحتاج إليه في قادم الأيام.

أما المشكلة الأساسية لـ"التيار" مع خطاب بري، فليست فقط في حديثه عن "حيثية وطنية" للرئيس العتيد، قبل تلك "المسيحية"، ولا غمزه من قناة عون وباسيل بدعوته إلى رئيس "يجمع ولا يفرّق"، مع كلّ ما أثاره ذلك من "تحفظات" لدى الجمهور "العوني"، ولكن قبل هذا وذاك، في "سخريته" من شعار "ما خلونا"، رغم أنّ بري، وفق هؤلاء، هو واحد من هؤلاء "الما خلونا"، بوصفه جزءًا من المنظومة التي سعت إلى "محاصرة العهد" منذ اليوم الأول.

عمومًا، بين هذا الرأي وذاك، قد يكون مسلَّمًا به أنّ مثل هذا السجال لا يجدي ولا ينفع في هذا التوقيت، في وقت قد يكون مطلوبًا العمل على إنجاز الاستحقاقات، لتفادي "الشرور" التي يمكن أن تأتي، فهل يكون الحلّ بـ"تغيير النظام" كما اقترح باسيل؟.

يقول العارفون إن لا حلّ سوى بتغيير النظام على المدى الطويل، خصوصًا بعدما أثبت الدستور الحالي، ولو صنّفه البعض في خانة "المقدَّس" من ثغرات "فاقعة" على أكثر من صعيد، وقد تجلّت في الممارسة، سواء من خلال المهلة "المفتوحة" لرئيس الحكومة المكلف في ​تشكيل الحكومة​، وقبله رئيس الجمهورية في الدعوة إلى استشارات، وصولاً إلى تشريع "الفراغ" ولو استمرّ لسنوات على مستويي الرئاسة والحكومة، إلى أمور تنفيذية أخرى.

وقد يكون مناسبًا في هذا الإطار، بحسب هؤلاء، الذهاب فعلاً إلى "​مؤتمر تأسيسي​"، ليس بالضرورة على طريقة "حزب الله" الذي كان أول الداعين إليه قبل سنوات، قبل أن يتراجع عن ذلك، بعدما فُسّرت دعوته يومها من قبل البعض على أنّها محاولة لفرض "نظام مثالثة"، ولكن من أجل البحث الجدّي بالنظام وعلّاته، والعمل على "تحصينه" بالحدّ الأدنى، بما يمنع أيّ محاولات "احتيال" على النظام من صلبه، كما يحصل اليوم.

لكنّ الأكيد، وفق ما يقول العارفون، أنّ مثل هذا الجهد لا يتمّ على وقع ضغط الاستحقاقات الداهمة، ولا في نهاية "العهد"، بل في بداياته، فالأولوية اليوم يجب أن تكون لتأليف حكومة "أصيلة" في أسرع وقت ممكن، تفاديًا لأيّ اجتهادات وفتاوى قد تأخذ البلاد بيدها إلى المجهول، ولانتخاب رئيس جديد للجمهورية يستطيع أن يتصدّى لهذه المسؤولية قبل غيرها، علمًا أنّ التعامل مع الاستحقاق بالبرودة المرصودة اليوم، لا يبدو بريئًا ولا عفويًا!.