لم يكد منسوب المواجهات الكلامية الحادة بين الفرقاء المسيحيين في لبنان ينخفض الى حدوده المقبولة بعد ​الانتخابات النيابية​، حتى ارتفع كالدولار مقابل الليرة ووصل الى حدود متقدّمة من التهميش والتهشيم، وبات كل يتمركز خلف المتراس الذي وضعه ويحاول بشتّى السبل والوسائل، استقطاب حلفاء علّهم يخفّفون عنه وطأة المواجهات العنيفة الدائرة، ويعزّزون امله في تحقيق الانتصار.

واللافت ان ما يعزز ارتفاع وتيرة المواجهات وحماوتها، يتعلّق بالاستحقاق الرئاسي الذي بات الجميع يقولون في السرّ انّه مؤجل لفترة من الوقت غير محدّدة، فيما يمتنع البعض عن الاقرار بذلك علناً. وما يزيد من حسرة الامور وتعقيدها، هو انّ كل الاطراف اللبنانية تعلم علم اليقين ان هذا الاستحقاق خارجي، ويحاولون بشتى الطرق "إستغباء" عقول البعض والايحاء بأنّه داخلي محض ولا علاقة للخارج به، ويصوّرون الرئيس المقبل على انه "سوبرمان" الذي سيحمل لبنان الى ميناء الخلاص...

على ايّ حال، باتت ساحة المواجهة المسيحيّة مفتوحة، واطلاق النار السياسي بالاسلحة الثقيلة اصبح هو السائد، ولكن الخطط العسكريّة هي التي ستفعل فعلها ولها الكلمة الفصل، ففي مقابل اعتماد النائب ​جبران باسيل​ على دعم "​حزب الله​" و"ضبط" جنوح رئيس مجلس النوّاب ​نبيه بري​، عادت مراكب رئيس القوات اللبنانية ​سمير جعجع​ لتتّجه نحو ميناء الطائفة السنّية، في مهمّة يتّفق الجميع على انّها صعبة ولكن بوادرها ليست مستحيلة بعد وصول النائب اشرف ريفي الى معراب بالامس. قد لا يؤشّر هذا الحضور الى تأييد سنّي لجعجع، ولكن من المؤكّد انّه يكسر حاجزاً يعترض طريقه ان بالنسبة الى موضوع اغتيال رئيس الحكومة الراحل رشيد كرامي، او بالنسبة الى موضوع "الاغتيال السياسي" لرئيس الحكومة السابق سعد الحريري، وهو امر مشجّع بالنسبة الى جعجع والقواتيين ومن يرغب في دعمه من الخارج، لانّه يسحب من التداول ورقة "الفيتو" السنّي بالشكل.

واذا كانت حظوظ رئيس تيار المردة ​سليمان فرنجية​ لا تزال قائمة بطبيعة الحال، فهذا مردّه الى السياسة الجديدة التي اعتمدها في هذه المرحلة والقائمة على فتح الخطوط والظهور بصورة الشخصيّة المنفتحة على الجميع، ومحاولة ازالة السواتر الرمليّة من خطوط المواجهة مع اطراف اخرى من الطائفة المسيحية وغيرها. ولكن البعض يراهن على ان هذه السّياسة لن تعمّر طويلاً، خصوصاً اذا ما شعر فرنجيّة ان حظوظه تتراجع، عندها سيعمد الى المشاركة في الحرب المفتوحة وبفاعليّة.

وحده المرشح الآخر قائد الجيش ​العماد جوزاف عون​ سيكون خارج الخدمة العسكريّة في الساحة الرئاسيّة، فهو يدرك ان لا مصلحة له في الدخول في بازار الاستحقاق الرئاسي وحرق كل اوراقه، فهو قائد للجيش وسيبقى بهذه الصفة الى ان يقرّر الرئيس الجديد استبداله. اما وصوله الى بعبدا، فيرتبط، وفق بعض المحللين، بما ستؤول اليه الامور على الارض، فإذا ما زادت التعقيدات ووصلت الى حدّ التوترات الامنيّة (التي لن ترقى الى الحرب)، فسيبقى اسم عائلة عون في المقرّ الرئاسي ولو انّ حامله هو شخصيّة اخرى. اما حظوظه اذا بقي الوضع الامني مستقراً، فتكمن في احتدام المواجهات بين الاطراف المسيحيّة الاخرى، فيبدو عندها الوحيد البعيد عن التشنّجات والمماحكات والمواجهات، فيكون المرشح التوافقي الاوفر حظاً والخيار الوحيد الباقي لمنع تدهور الامور والوصول الى الفوضى التامة.

سيناريوهات عديدة مطروحة وتطرح على بساط التداول بعد ان بدأت ولاية الرئيس عون بطرق الابواب، فأيّ منها سيكتب له النجاح، ومن سيكون الساكن الجديد للقصر؟! مع التسليم مسبقاً بعدم قدرته على تغيير الامور، انما يأتي انتخابه بمثابة دفعة معنوية فقط، على غرار ما حصل بالنسبة الى الانتخابات النيابية.