لَيسَ لبنانُ غَنيمَةً لِلمَسيحِيَّةِ بِوَجهِ الإسلامِ، وَلا شُمولِيَّةً لِلإسلامِ بِوَجهِ المَسيحِيَّةِ. مَن يَشاؤهُ إنتِقاماً هَكذا، هوَ واضِعٌ نَفسَهُ خارِجَ رِفعَةِ دَعوَةِ لبنانَ.

أنتَ لا تَفهَم لبنانَ إلّا إذا أمسَكتَ ذاكَ الخَيطَ مِن نورٍ الذي بِهِ حيكَ لبنانُ، مِن فَوقٍ.

وَلَئِن وُضِعَتِ المَسيحيَّةُ والإسلامُ، في تَجارِبَ تاريخِيَّةٍ مُتناقِضَةٍ، مُتباعِدَةٍ، مُتخاصِمَةٍ، إنّى وجِدَتا، فَهُما ما خَرَجَتا مَعاً نَحوَ تأسيسِ وِجدانٍ مُشتَرَكٍ إلّا في لبنانَ. تأسيسٌ، قُلنا؟ لِنؤَكِّدَهُ أكثَرَ مِن لِقاءٍ، بَل ديناميكِيَّةً تَحفَظُهُما مِن ذاكّ التَحَوّلِ الى ايديولوجيا، غايَتُها إنصِهارُ الآخَرِ في هَيمَنَةٍ على قاعِدَةِ أكثَرِيَّةٍ مُختارَةٍ وأقَلِّيَةٍ مُنسَحِقَةٍ.

مِن تَواريخَ خاصَّةٍ، مُترامِيَةٍ، الى عُزلَةٍ فإندِفاعَةٍ مارونِيَّةٍ قابَلَها إعتِراضٌ إسلاميٌّ بِتَقيَّةٍ دُرزِيَّةٍ، فَتَنابُذٍ، الى إجتِراحِ خُصوصِيَّةٍ حَرَّرَتِ المَسيحِيَّةَ مِن قَلَقِ الضَحِيَّةِ، والإسلامَ مِن حُكمِ إسحَقَ وإسماعيلَ بالتَصارُعِ الَلدودِ، وَرَفَعَتهُما مَعاً الى مِلءِ صِياغَةِ تاريخٍ مُستَقبَليٍّ مُشتَرَكٍ، لا هوَ مَفروضٌ بالطُغيانِ وَلا هوَ طاغٍ بالمَفروضِيَّةِ، بَل... بِحُريَّةِ قَرارٍ خُلاصَتُهُ: تأكيدُ المَسيحِيَّةِ أنَّ وجودَها هُنا أصيلٌ وَلَيسَ لُجوءً ذِمِيَّاً في أرضِ الإسلامِ، وِتأكيدُ الإسلامِ أنَّ وجودَهُ هُنا أصيلٌ وَلَيسَ لُجوءً ذَميماً في آحادِيَّة إدماجٍ.

أهيَ مُحَصَّلَةٌ نَبَوِيَّةٌ في مَسكونِيَّةِ الروحِ، وَقَد بَلَغَتِ التَحقيقَ في دَعوَةِ لبنانَ؟ في التَحَرُّرِ إنعِتاقٌ حُكماً، وَتَفاعُلٌ حَتماً، لا بلوغَ نِهائِيَّاً فيهِ، لأنَّهُ صُعودٌ مُنفَتِحٌ لِلإكتِمالِ الفَردَيِّ والجَماعِيِّ في آنٍ.

مِئَةُ عامٍ عَلى إطلاقِ البَطرِيَركِ الياس الحويِّك أُسُسَ إرساءِ هَذا الكيانِ-الوَطنِ لِيَكونَ هَذا المَشروعَ الأرضيَّ الخَلاصيَّ لِلمَسيحِيَّةِ والإسلامِ مَعاً، وَقَد أرادَهُ ضَرورَةً مُلِحَّةً وَحاجَةً جَذرِيَّةً بِوَجهِ الأوضاعِ التَنازُعِيَّةِ الماضِيَةِ والآتِيَةِ في عالَمِ ما بَعدَ إنهيارِ التيوقراطِيَّاتِ الساحِقَةِ للإنسانِ وَلِفَرادَةِ إنتِماءاتِهِ، ولبنانُ لا يَزالُ هَذا المَدى لتَرَقِّي العَقلِ المُتصالِحِ مَعَ الإيمانِ والمُتسامي بِهِ، على الرُغمِ مِن إقطاعِ الأفاعي المُستَنسِخِ لِذاتِهِ لِلإستِحكامِ بِمُقَدِّراتِ المَسيحيَّةِ والإسلامِ في لبنانَ، والتَسَلُّطِ عَلى فِردَوسِهِما المُشتَرَكِ.

اليَومَ، أكَتَرُ مِن أيِّ وَقتٍ مَضى وَقَد إنهارَت ظَواهِرُ وإستُنفِدَت مَظاهِرُ، وَعادَ الحاضِرُ الى مَرحَلَةِ التَعقيداتِ العَميقَةِ والتَصارُعِ الكَبيرِ، عَقِبَ إرتِطامِ عَقائِدَ مُتأدلِجَةٍ وَمؤَدلِجَةٍ وَسُقوطَها، وَفيما العالَمُ يَشهَدُ "حَرباً عالَمِيَّةً ثالِثَةً مُجَزأةً" يَتَصادَمُ فيها الزَمَنيُّ بالروحيِّ والعَكسُ بالعَكسِ، لَيسَ إلَّا لبنانَ لِيؤَكِّدَ أنَّهُ القادِرُ على إبتِكارِ القيامَةِ بالإكتِمالِ.

تَرَقي الإنسِجامِ

لَيسَ في هَكذا إبتِكارٍ مِن إستِحالَةٍ، خُصوصاً إذا ما إرتَكَزَ عَلى إرسالِيَّةِ تَرَقيَ الحَقِّ، بالإنسِجامِ بَينَ المَسيحِيَّةِ والإسلامِ. وَمِن شأنِ إيجابيَّتِهِ أن تُناقِضَ أشكالَ العَزلِ، وَإنعِزالِيَّاتِ الوَحدَوِيَّةِ، كَما رِباطاتِ المالِ وَعَدَمِيَّاتِ المَصالِحَ الظَرفِيَّةِ التي حَوَّلَت لبنانَ خُضوعاً لِتَقليدِ عَبَثِيَّاتِ، وَتَمَلُّقاً لِطوائِفِيَّةِ زَبائِنِيَّاتٍ.

هوَ مَنطِقٌ وَمَسارٌ. جُذورُهُ أنَّ الله واحِدٌ لا إلَهُ قَبيلَةٍ وَلا إلَهُ شَعبٍ، لا إلَهَ أحادِيَّةٍ بَل إلَهَ وَحدانِيَّةٍ، وَدَعوَتُهُ: التَعامُلُ مَعَهُ وِفقَ ما هوَ. حَقّاً.

وَهوَ حَزمٌ وَوجوبُ حَزمٍ. باعِثُهُ مُجابَهَةُ الخَلطِ بَينَ الزَمَنيِّ والروحِيِّ، بِلِقاءِ الزَمَنِ مَعَ النازِلِ هِبَةً لِلروحِ، وَلُقياهُ: العَقلُ والإيمانُ مَعَ الحاضِرِ لِلمُستَقبَلِ.

وَهوَ مَعقِلٌ وَمُنطَلَقٌ. آفاقُهُ إنفِتاحُ لا المَسيحِيَّةِ عَلى الإسلامِ وَبالعَكسِ، بَل إنفِتاحُ المَسيحِيَّةِ والإسلامِ المُشتَرَكِ عَلى رَسولِيَّةِ الحُريَّةِ، في الإرثِ الإبراهيميِّ الروحِيِّ والتُراثِ غَيرِ الإبراهيميِّ المُتَرَوحِنِ.

لأجلِ تِلكَ المَسكونِيَّةِ المُتَخَطِّيَةِ لِذاتِها وَبِها، يَتَحَقَّقُ لبنانُ بِذاتِهِ وَلِذاتِهِ.

بِذَلِكَ يَكونُ لبنانُ لبنانُ المُطلَقِ... أو لا يَكونُ!.

*اللوحة المرافقة للمقال هي للفنان ميشال روحانا تظهر فن العمارة اللبنانية من الحجر المشغول يدويًّا.