عِندَما غُرِسَ صَليبُ الرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ في الأَرضِ ٱرْتَفَعَتِ الأَرْضُ إِلى السَماء، وَكانَ الرَّبُ بِنُزُولِهِ إلينا وتَجسُّدِهِ قد أنْزَلَ السَّماءَ إلى الأرضِ. هذا ما قالَهُ الرَّبُّ لِنَثَنائيل: "الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ"(يوحَنّا ٥١:١).

هذا أَكثَرُ مِن رائِع، وَلٰكِنَّ هذا لا يَعْني أَنَّ الاضْطِراباتِ وَالحُروبَ قَدْ وَلَّتْ، وَأَنَّ القَلَقَ وَالخَوفَ زالا وَانْدَثَرا، فَالرَبُّ يَسوعُ كانَ واضِحًا تَمامَ الوُضوح: "فِي العَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلٰكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ العَالَمَ"(يوحنا ٣٣:١٦).

قُوَّةُ المَسيحِ تَجْعَلُنا نَغْلِبُ اليَأْسَ مَهْما اشْتَدَّتِ الأَحْوالُ، وَكُلُّنا يُنْشِدُ: "الرَبُّ نُورِي وَخَلاَصِي، مِمَّنْ أَخَافُ؟ الرَبُّ حِصْنُ حَيَاتِي، مِمَّنْ أَرْتَعِبُ؟" (مز ١:٢٧).

هذا هُوَ إِيمانُنا مُنْذُ البَدْء. وَهكَذا نَظَرَالمَسيحِيّونَ مُنْذُ القُرونِ الأُولى إِلى الصَّليبِ وَصَوَّروه. فَصَليبُنا قِيامَة، وَلا قِيامَةَ دونَ صَليب.

يَشْرَحُ الأُستاذُ المُعاصِرُ "Frédérick Tristan"، المُتَخَصِّصُ بِالفَنِّ الإيقونوغْرافيِّ المَسيحيِّ القَديم، في كِتابِهِ: "التَّصاويرُ المَسيحِيَّةُ الأَوَّلِيَّة[1]"، أَنَّ الصَّليبَ عَلى تَنَوُّعِ تَصْويرِهِ كانَ دائِمًا شَهادَةً لِلْمَجْدِ وَالغَلَبَة.

في كَنيسَةِ "Sant’ Andrea" في "رافين – إيطاليا" مَثَلًا، يُوجَدُ فُسَيْفَساءُ مِنَ العامِ ٥٤٠م، يَظْهَرُ فيها الرَبُّ يَسوع بِلِباسِ جُنْدِيٍّ مُحارِبٍ حامِلًا صَليبَهُ عَلى كَتِفِهِ، وَيَحْمِلُ بِيَدِهِ اليُسْرى إِنْجيلًا مَفْتوحًا مُدَوَّنًا عَلَيْه: "أَنا هُوَ الطَريقُ، وَالحَقُّ، وَالحَياة". وَهُوَ يَطَأُ الأَسَدَ وَالأَفْعى، رَمْزَي الحِكْمَةِ وَالقُوَّة (مزمور ١٣:٩١). إِنَّها الحَرْبُ عَلى الهَرْطَقَةِ وَالباطِلِ وَالشَرّ.

يَذْكُرُ أَيْضًا "تَرْتَلْيانوسُ" (١٦٠-٢٢٠م) أَنَّ هُناكَ صُلْبانًا مَحْمولَةً يَحْمِلُها الكَهَنَةُ وَيَتَقَدَّمونَ المُؤْمِنينَ في سَيْرِهِمْ نَحْوَ مَكانِ إِقامَةِ الذَّبيحَةِ اۡلإِلٰهِيَّة، عَلامَةً لِلْظَّفَر، مَثَلُها كَمَثَلِ مَشْهَدِ حامِلِي راياتِ التَنّينِ عِنْدَ الجَيْشِ الرُّومانِيِّ الذينَ كانوا يُلَقَّبونَ بـِ"Draconarius".

ظَلَّ هٰذا الٗلَّقَبُ مُسْتَعْمَلًا في عَهْدِ الإِمْبراطور "قُسْطَنْطين" (٢٧٢-٣٣٧م) عِنْدَما اسْتَبْدَلَ التَنّينَ بِحَرْفَيْ ٱسْمِ المَسيحِ بِاليونانِيَّةِ XR (Χριστός / Christ)، مَعَ المُلاحَظَةِ أَنَّهُ كانَ يوجَدُ قَديمًا عِنْدَ اليونانِيّينَ وَالمِصْرِيّينَ قَبْلَ المَسيح، ٱسْتِعْمالٌ لِهٰذِهِ الحُروف، وَكانَتْ تَعْني: "عَرّافٌ جَيِّدٌ وَمُبَشِّر". لَقَدْ أَتى المَسيحُ لِيَكونَ الكُلَّ في الكُلِّ وَيَكونَ هُوَ مَنْ بَحَثَتْ عَنْهُ الشُّعوبُ وَالحَضارات.

اللافِتُ في تَصاويرِ الصَّليبِ في القُرونِ الأَرْبَعَةِ الأولى، هُوَ عَدَمُ وُجودِ المَصْلوب عَلى الصَّليبِ بِشَكْلٍ عام. ولِهذا سَبَبٌ لاهوتِيٌّ كَبيرٌ يَسْتَحِقُّ الوُقوفَ عِنْدَه.

كانَ النَّفَسُ المَسيحِيُّ عِنْدَ المُؤْمِنينَ إِبّانَ الاضْطِهاداتِ ضِدَّهُمْ نَفَسًا قِيامِيًّا بِٱمْتِياز. فَبِقَدْرِ ما كانَ يَزْدادُ الاضْطِهاد، كانَ يَشْتَدُّ النَّظَرُ إِلى قِيامَةِ المَسيح، وَيَبْتَعِدُ الخَوْفُ عَنِ المَوْت. تَرْجَمَ المَسيحيّونَ الأَوائِلُ هذا الإيمانَ الجَلودَ وَالذي لا يَتَزَعْزَعُ بِتَصْويرِ مَشاهِدَ مِنَ العَهْدِ القَديمِ تُشيرُ إِلى القِيامَةِ وَخَلاصِ الرَّب، مِثْل الفِتْيَةِ الثَلاثَةِ في أَتونِ النّار، وَدانِيالَ النَّبِيّ في جُبِّ الأُسود، وَيونانَ في جَوْفِ الحوت، وَضَرْبِ موسى لِلصَّخْرَةِ في الصَّحْراءِ وَخُروجِ الماءِ مِنْها كَيْ لا يَموتُ الشَّعْبُ مِنَ العَطَش. (دَياميس روما).

هذا ما نُرَتِّلُهُ في عيدِ رَفْعِ الصَّليبِ الكَريمِ المُحْيي، وَتَحْديدًا، ما يُعْرَفُ بِـ "كاطافاسِيّات الصَّليب": "٠٠٠ الفِتْيانُ الثَّلاثَةُ لَمْ يَرُعهُمُ الغَضَبُ الوَحْشِيُّ وَلا النَّارُ الآكِلَة، ٠٠٠كانوا يُرَتِّلون: أَيُّها الفائِقُ التَّسْبيح، مُبارَكٌ أَنْتَ يا إِلٰهَ آباءِنا".

كانَتِ الصُلْبانُ المَحْمولَةُ تُزَيَّنُ بِالزُّهورِ إِشارَةً إِلى ٱسْتِمْرارِيَّةِ الحَياةِ في المَلَكوت. وَكانَتْ تُحاطُ بِالمَشاعِلِ إِشارَةً إِلى النُّور[2]. ويُوجَدُ في دَياميسِ روما صَليبٌ مُرَصَّعٌ[3] مِنَ القَرْنِ الثّالِثِ الميلادِيّ، يَشْهَدُ عَلى ذلِك: الخَشَبَةُ العامودِيَّةُ تَحْتَ الخَشَبَةِ الأُفُقِيَّة، يَخْرُجُ (مِنْ جانِبَيْها الأَيْمَنِ وَالأَيْسَرِ) زُهور. وَعَلى الخَشَبَةِ الأُفُقِيَّةِ يُوجَدُ مِشْعَلان. فَأَسْفَلُ المِشْعَلِ الذي عَلى يَمينِ الصَّليبِ يَتَدَلّى حَرْفُ الـ "A" أَوَّلُ حُروفِ اللُغَةِ اليونانِيَّةِ وَتُسَمّی Alpha))، وَأَسْفَلُ المِشْعَلِ الثّاني كُتِبَ حَرْفُ الـ"ω" آخِرُ حُروفِ اللُغَةِ اليونانِيَّةِ وَتُسَمّی Oméga/ωμέγα))، وَكُلُّ ذٰلِكَ تَرْجَمَة لِما قالَهُ الرَبُّ يَسوعُ عَنْ نَفْسِه: "أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَاليَاءُ، البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ"، يَقُولُ الرَبُّ الكائِنُ وَالذي كَانَ وَالذي يَأْتِي، القَادِرُعَلى كُلِّ شَيْءٍ" (رُؤْيا ٨:١). هذا النَّوْعُ مِنَ الصُلْبانِ يُدْعى Florida.

نَحْنُ إِذًا أَمامَ صُلْبانٍ أُخْرَوِيَّة "Eschatologique"، والتي تُشيرُ إِلى الحَياةِ الثّانِيَةِ الأَبَدِيَّة.

يُكْمِلُ "Tristan"، وَيَكْتُبُ: الصَّليبُ مِنْ جِهَة هُوَ صَليبُ الحَقِّ وَالعَدْلِ وَالمَجْد، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرى هُوَ صَليبُ المَسْكونَةِ جَمْعاء، صَليبُ المَجيءِ الثّاني الذي نَعيشُهُ مُنْذُ الآن. وَعَدَمُ وُجودِ المَصْلوب عَلى الصَّليبِ في القُرونِ الأُولى يَعودُ لِتَرْكيزِ المُؤْمِنينَ عَلى القِيامَةِ، وَعَلی أَنَّ العَمَلَ الخَلاصِيّ غَيْرُ مَحْصورٍ في حَقَبَةِ تاريخِ الصَّلْبِ في أورشَليم، بَلْ يَمْتَدُّ إِلى دَهْرِ الدّاهِرين.

كُلُّ هذا الأَمْرِ لَيْسَ بِبَعيدٍ إِطْلاقًا عَنْ عَدَمِ وُجودِ كَلِمَة "ماتَ" في دُسْتورِ الإيمانِ الذي نُصَّ في المَجْمَعِ المَسْكونِيِّ الأَوَّلِ في نيقِيَةَ عام ٣٢٥م، وَالذي ما زِلْنا نَتْلوهُ كَما هُو: "صُلِبَ عَنّا عَلى عَهْدِ بيلاطُسَ البُنْطِيّ، تَأَلَّمَ وَقُبِر، وَقام...".

تَفْسيرُ ذلِكَ أَنَّ الرَبَّ يَسوعَ ماتَ بِطَبيعَتِهِ البَشَرِيَّة فَقَط. فَالمَصلوبُ إِلٰهٌ قائِمٌ. هذا هُوَ إيمانُنا.

دائمًا في التّاريخ، مَكانَةٌ مُهِمّةٌ لِفُسَيْفَساءِ الصَّليبِ المُرَصَّعِ في كَنيسَة Sant' Apollinare in Classe في "رافين" في القَرْنِ السّادِسِ مِيلادِيّ، إِذْ نُشاهِدُ في وَسَطِ الصَّليبِ رَأْسَ الرَبِّ يَسوعَ (médaillon) وَعَيْناهُ مَفْتوحَتان: إِنَّها "القِيامَة".

كانَ الصَّليبُ المُرَصَّعُ (Crux gemmata) قَدْ بَدَأَ يُعْرَفُ مَعَ ظُهورِ الصَّليبِ لِقُسْطَنْطينَ المَلِك (القَرْنُ ٤)، وَقَدْ رَمَزَتِ الأَحْجارُ الكَريمَةُ فيهِ إِلی القِدّيسينَ الشُّهَداءِ الّذينَ في السَّماءِ يَتَلَأْلَأون.

ما نُشاهِدُهُ اليَوْم، الرَبَّ يَسوعَ مَصْلوبًا وعَيْنَاه مُغْلَقَتان، (إِشارَةً لِمَوْتِهِ في طبيعته البشرية)، الذي أَخَذَ مَكانَهُ تَدْريجِيًّا بَعْدَ ٱنْتِهاءِ مَرْحَلَةِ الاضْطِهاد، وَتُشَكِّلُ أَيْقونَةُ المَصْلوبِ في دَيْرِ القِدّيسَةِ كاتْرينا الأَقْدَم (القرن الثّامِن). لٰكِنْ لَمْ يَخْلُ الأَمْرُ مِنْ وُجودِ مَنْحوتاتٍ عَلى أَحْجارٍ كَريمَةٍ يَظْهَرُ فيها الرَبُّ يَسوعُ مَصْلوبًا مِنَ القَرْنِ الرابع، وخلفَ رأسَهُ هالةٌ مع صَليب، وتحتَ المصلوبِ امرأةٌ واقفةٌ ورجلٌ راكعٌ (والدةُ الإلهُ والقدّيسُ يُوحنّا الإنجيلي).

خُلاصَةً، مَنْ يُشارِكُ في سَهْرانِيَّةِ عيدِ رَفْعِ الصَّليبِ، وَيَعيشُ صَلَواتِها وَتَراتيلَها، يَعي الرُّوحَ القِيامِيَّة، فَتَتَفَتَّحُ في صَدْرِهِ زُهورُ الحَياةِ الجَديدَة، لَوْ أَنْكَرَ ذاتَهُ حَقًّا، وَحَمَلَ صَليبَهُ، وَسارَ مَعَ المَسيح.

إِلى الرَبِّ نَطْلُب.

[1]. Les Premières Images chrétiennes : du symbole à l'icône - 1996

[2]. يذكر ذلك المؤرّخ الكنسيّ المسيحي Socrate le scolastique (٣٨٠-٤٤٠م).

[3]. La Catacombes de Pontien – Rome.