سأل البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي "بأي راحة ضمير، ونحن في نهاية الشهر الأول من المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية، والمجلس النيابي لم يدع بعد إلى إي جلسة لانتخاب رئيس جديد، فيما العالم يشهد تطورات هامة وطلائع موازين قوى جديدة من شأنها أن تؤثر على المنطقة ولبنان؟ صحيح أن التوافق الداخلي على رئيس فكرة حميدة، لكن الأولوية تبقى للآلية الديمقراطية واحترام المواعيد، إذ إن انتظار التوافق سيف ذو حدين، خصوصا أن معالم هذا التوافق لم تلح بعد. إن انتخاب الرئيس شرط حيوي لتبقى الجمهورية ولا تنزلق في واقع التفتت الذي ألم بدول محيطة. لا يوجد ألف طريق للخلاص الوطني والمحافظة على وحدة لبنان بل طريق واحد، هو انتخاب رئيس للجمهورية بالاقتراع لا بالاجتهاد، وبدون التفاف على هذا الاستحقاق المصيري. إن الدساتير وضعت لانتخاب رئيس للجمهورية، لا لإحداث شغور رئاسي. فهل الشغور صار عندنا استحقاقا دستوريا، لا الانتخاب؟".

أضاف: "لبنان يحتاج اليوم لكي ينهض حيا إلى حكومة جديدة تخرج عن معادلة الإنقسام السياسي القديم بين 8 و 14 آذار، وتمثل الحالة الشعبية التي برزت مع انتفاضة 17 تشرين، ومع التنوع البرلماني الذي أفرزته الانتخابات النيابية 15 أيار الماضي. إن الظروف تتطلب حكومة وطنية سيادية جامعة تحظى بصفة تمثيلية توفر لها القدرة على ضمان وحدة البلاد، والنهوض الإقتصادي، وإجراء الإصلاحات المطلوبة. فلا يمكن والحالة هذه أن تبقى الحكومة حكومة فئوية يقتصر التمثيل فيها على محور سياسي يتواصل مع محور إقليمي. ولا تستقيم الدولة مع بقاء حكومة مستقيلة، ولا مع حكومة مرممة، ولا مع شغور رئاسي، لأن ذلك جريمة سياسية وطنية وكيانية. إن أي سعي لتعطيل الإستحقاق الرئاسي إنما يهدف إلى إسقاط الجمهورية من جهة، ومن جهة أخرى إقصاء الدور المسيحي، والماروني تحديدا عن السلطة من جهة أخرى، فيما نحن آباء هذه الجمهورية ورواد الشراكة الوطنية. لذا، إذا كان طبيعيا من الناحية الدستورية أن تملأ حكومة مكتملة الصلاحيات الشغور الرئاسي، فليس طبيعيا على الإطلاق ألا يحصل الاستحقاق الرئاسي، وألا تنتقل السلطة من رئيس إلى رئيس. وليس طبيعيا كذلك أن يمنع كل مرة انتخاب رئيس لكي تنتقل صلاحياته كل مرة إلى مجلس الوزراء. فهل أصبح الاستحقاق الرئاسي لزوم ما لا يلزم؟ لا، بل هو واجب الوجوب لئلا ندخل في مغامرات صارت خلف الأبواب".

وسأل الراعي "لماذا يفضل البعض تسليم البلاد إلى حكومة مستقيلة أو مرممة على انتخاب رئيس جديد قادر على قيادة البلاد بالأصالة؟ ألا يعني هذا أن هناك من يريد تغيير النظام والدستور، وخلق تنافس مصطنع بين رئاسة الجمهورية ورئاسةالحكومة، فيما المشكلة هي في مكان آخر وبين أطراف آخرين؟ ونسأل: من يستطيع أن يقدم سببا موجبا واحدا لعدم انتخاب رئيس للجمهورية؟".

وتابع قائلا "ألم تجر الانتخابات النيابية منذ أشهر قليلة وفاز نواب متأهبين لانتخاب رئيس؟ ألا يوجد حشد من المرشحين ينتمون إلى كل الاتجاهات والمواصفات؟ ألا تستلزم الحياة الدستورية والميثاقية والوطنية انتخاب رئيس يستكمل بنية النظام الديمقراطي؟ ألا يستدعي إنقاذ لبنان وجود رئيس جديد يحي العلاقات الجيدة مع الدول الشقيقة والصديقة والمنظمات الدولية؟ ألا يستوجب التفاوض مع المجتمع الدولي وعقد اتفاقات ثنائية أو جماعية انتخاب رئيس؟ ألا تقتضي الأصول أن يلبي لبنان نداءات قادة العالم لانتخاب رئيس يقود المصالحة الوطنية، ويرمم وحدة البلاد؟ ألا يحتمل أن يؤدي عدم انتخاب رئيس إلى أخطار أمنية واضطرابات سياسية وشلل دستوري؟ تمارس قوى سياسية هذا الأداء التدميري على صعيدي تشكيل الحكومة وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، فيما أمست المآسي خبز اللبنانيين اليومي. لقد هالنا غرق عشرات الأشخاص في البحر، وهم يستقلون زوارق غير صالحة لعبور البحار مسافات طويلة. لكن سوء الأحوال دفع بهم إلى الهرب والهجرة بأي ثمن. إن البحث عن الحياة يؤدي أحيانا إلى الموت. والأخطر من ذلك أن مأساة الأمس ليست الأولى، فأين الإجراءات الأمنية الرادعة التي اتخذتها الدولة لمنع انطلاق زوارق الموت؟ الدولة مسؤولة عن هذه المآسي لتقاعصها عن إنهاض البلاد من الأزمة الإقتصادية والمالية والإجتماعية. إنا معكم نعرب عن تعازينا القلبية لعائلات الضحايا، ونسأل الله أن يعزي قلوبهم بوافر رحمته. ونرى من جهة أخرى بعض المودعين يقومون بعمليات لاستعادة أموالهم مباشرة وبالقوة لأن الدولة أهملت المودعين وتخلت عن مسؤولياتها في استثمار مواردها وتغطية ديونها وإفراج شعبها، ولأن المصارف تمادت في تقنين إعطاء المودعين الحد الأدنى من حقوقهم، وبات المواطنون ضحية تقاذف المسؤولية بين الدولة والمصارف".

ولفت الراعي الى "إن السلطات السياسية والأمنية مدعوة بالمقابل إلى توفير الحماية للمصارف لتعود وتستأنف عملها، لأن إغلاقها عمل غير جائز. فالمصارف ليست ملك أصحابها فقط، بل هي ملك المودعين والناس والحركة التجارية والاقتصادية أيضا. لكنها تحتاج إلى حماية أمنية لكي تؤدي دورها الحيوي في البلاد؟ إننا بالرجاء نرفع صلاتنا إلى الله لكي ينير الضمائر والقلوب بنور الإنجيل، من أجل العيش بسكينة وهدوء وسلام. له المجد والشكر إلى الأبد. آمين".