لا بد من طرح الأمور على ما هي عليه، فعليًا انّ المرجعية السياسية المافيويّة ليست قدرًا أو إستسلامًا مجانيًا، فالنظام المافيوي القائم في لبنان هو بحكم الخارج عن القانون والدستور، وهو نظام قــلّ نظيره بين الأمم المنظمة، وفيه العديد من الممارسات اللاقانونية المتناقضة مع المعطيات القانونية التي تُحْكَمْ بموجبها الدول، وهي التي تراكمت منذ سنوات ودفعت بالأمور في إتجاه بعيد يتناقض مع أُسُس الأنظمة المتعارف عليها بموجب مبادئ "العلم السياسي"، ما يتنكّر لمبدأ العدالة أمام القانون وأمام تكافؤ الفرص، أي بقدر ما يسمح نظام المافيا بالتمييز بين مواطن وآخر في توزيع خدمات الدولة وحتى حمايتها.

أجريتُ بحثًا عن كلمة "مافيا" وأجمعتْ كل المراجع على أنه مصطلح لوصف نوع من "عصابة تعرف بعصابات الجريمة المنظّمة"، التي تُمارس عملاً ما غير شرعي بالإبتزاز والتغاضي عن تطبيق القوانين عن طريق حظر القانون والترهيب للتلاعب بأي نشاط سياسي، إقتصادي، تجاري وأمني، وبخاصة الأعمال غير المشروعة، كالتهريب والسرقة والتجارة بالمخدرات، كما التجارة بالسلاح على ما يحصل في الجمهورية اللبنانية .

واقع المافيا السياسية في لبنان أُقيم منذ سنوات وبتغطية من قوى داخلية، ممّا دفع بالنظام في إتجاه يتناقض مع ما يُعرف بالنظام السليم المبني على قواعد القانون والعلوم السياسية، وهذا أمر يتناقض أيضًا مع ما يُعرف بـ"دولة القانون والمؤسسات"، حيث الفوضى هي الملاذ الأول للحركة السياسية اللبنانية، والذي يُفقِد الأمن والطمأنينة للمواطنين بالتزامن مع تصرفات سلطوية مافيويّة تؤدّي إلى إنتهاك حقوقهم وحرياتهم. وتصرفات هذه السلطة المافيويّة كانت ولا تزال تحمل في طيّاتها ما يُعرقل الدور الآمن على صعيد الإستقرار الوطني وبالتالي يُهدّد الأمن والسلم الدوليين.

خبِرْتُ الواقع السياسي حتى من بلاد الإغتراب ولاحظتُ أنه بعدما أُقِّر إتفاق الطائف وما تلاه من سقوط حكم الميليشيات إنتشر مفهوم "دولة المافيا"، وهو وفقًا لنظرة أكثر من خبير في الشؤون السياسية وأحد المستشارين السياسيين لديّ أنها بقايا نظام الميليشيات المتساقط، والذي قادنا إلى حكم مافيوي وعودة نظام الميليشيات إلى السلطة. وفي الحقيقة إنّ تعبير "دولة المافيا" هو تعبير يصف الحالة التي نحن فيها وهو كناية عن مافيا سياسية، مالية، أمنية وإقتصادية التي وُلِدَتْ وترعرتْ في أحضان المافيا الأم التي تتحّكم في كل مفاصل الدولة.

مافيا التوريث السياسي وهي ضمانة سياسية رسمية لإستمرار آليات تسيير سلطة المافيا القائمة على المصالح والنفوذ، حيث أصبحت السلطة اللبنانية كناية عن تنظيم مافيوي سرّي، وهو البديل عن كل أجهزة الدولة الرسمية والشرعية. ومافيا التوريث السياسي هي مجموعة من السياسيين الأشرار يكوّنون تحالفات واسعة وكبيرة بين بعضهم البعض، ويسعون إلى السيطرة على مقدرات الدولة والإستحواذ على موارد البلاد، وفي سبيل ذلك أنشأوا تحالفات نيابية مافيويّة لازمة لإدارة هذا التنظيم المافيوي قوامه عناصر من الأحزاب والمجموعات القائمة لإتمام السيطرة على كل مفاصل الجمهورية.

أخطر ما في هذه المافيا الحاكمة هو "المافيا المالية"، وهي تماهت وتوّغلت في الجمهورية على طريقة إنتشار الأزمة الماليّة في كل لبنان وبفضل الإقتصاد الضعيف أصبحت قادرة على الإستيلاء على الشارع اللبناني، وترغم الناس في كل مكان أن تقتطع حصصًا من ميزانياتهم لها، وفقد معظم اللبنانيين وظائفهم ووجدوا أنفسهم مضطرين للسفر خارج البلاد، وهذا الأمر يُعّد جريمة مالية منظّمة تُديرها المافيا المالية، والهدف منها تهجير الشعب اللبناني أو بصريح العبارة إحتلال لبنان وتوطين اللاجئين الفلسطينيين كما توطين النازحين السوريين، وهذا كله على حساب الديمغرافيا اللبنانية. إنّ السكوت عن هذه الجريمة هو بمثابة الخيانة العظمى يرتكبها عمدًا رجال ال​سياسة​ في لبنان كما أحُمِّل رجال الدين تبعاتها الخطيرة .

إنّ المافيا السياسية وتوابعها في لبنان تمثل تحديًا عسيرًا على صنّاع السياسة اللبنانيّة ونتيجة لذلك يصعب التكهّن بسلوك تلك المافيا، وهو ما يجعلها ثقلاً خطيرًا على الساحة اللبنانية، لذا من الواجب دحرها في أقرب فرصة متاحة وإلاّ...