مُذ تَكَوَّنَت، نَشَأت على تَصارُعٍ داخِلَها، مُشبَعٍ بِتِشابُكٍ مُطلَقٍ. هيَ اليَهودِيَّةُ، الَتي إنزَوَت مُنقَسِمَةً تَحتَ شِباكِ كُلِّيانِيَّتَينِ دينيَّتَينِ تَسيرُ الواحِدَةُ في مُغامَرَةِ إلغاءِ الأُخرى بِنَزعَةِ إستِئثارٍ حَصرِيَّةٍ. وَلا مَثيلَ لِتِلكَ المُغامَرَةِ إلَّا نِظامَ سَرجونَ الأكاديِّ، في القَرنِ الخامِسَ والعِشرينَ قَبلَ المَسيحِ، الَذي إستَجلَبَ مِنَ السَماءَ مَلَكِيَّةً أرضِيَّةً وَفَرَضَ إقصاءَ الغَيرِيَّاتِ بإعتِبارِها هَدَّامَةً لِلمَدينَةِ المُقَدَّسَةِ.

أجَل! هيَ مُغامَرَةٌ بِمَفهومَينِ: الأوَّل صاغَهُ الكُتَّابُ المُلهَمونَ لِلعَهدِ القَديمِ، حَيثُ أسموا اللهَ مَعَ الآباءِ الأوَّلينَ: إبراهيمَ، وإسحَقَ، وَيَعقوبَ: "إيلوهيمَ"، أيّ "إيلَ" وَهيَ التَسمِيَةُ الفينيقيَّةُ-الُلبنانيَّةُ، وَقَد رَصَفوها بِصيغَةِ الجَمعِ لِلتَعظيمِ والتَكريمِ. وَهوَ، في سُموِّهِ اللامُتناهيَ وَقُدرَتِهِ مُنذُ التَكوينِ، إلَهُ الأشخاصِ لا إلَهَ مَكانٍ، المُعَبِّرِ عَنِ الحَياةِ مِن حَيثُ هيَ قوَّةٌ.

أمَّا قادَةُ اليَهودِ الروحيُّونَ فإختاروا تَرسيخَ إسمٍ ثانٍ: "يَهوه". كَلِمَةٌ غامِضَةٌ مِن جُذورَ فينيقيَّةً-لُبنانيَّةَ هيَ "ياه"-"يو"-"ياف"، أو "هايا" أيِّ الكائِنَ. والأخطَرُ أنَّهُم وَسَّعوا مَفهومَهُ فَحَمَّلوهُ مُغالاةِ الغَضَبِ وصولاً لِتَحريمِ مُجَرَّدِ التَلَفُظَ بإسمِهِ، لأنَّهُ بِحَسَبِ إدِّعائِهِم الغاديَ شَريعَةً لا يَحتَمِلُ التَسميَةَ. هوَ، في إبعادِهِ هَذا، إلَهٌ قَوميٌّ لِمَكانٍ مَحصورٍ فيهِ.

فَكانَ أن تَمَّ أسرُ اللهِ، وأُفسِدَ مَفهومَهُ المُقدَّسُ والقُدسيُّ.

كَينونَةُ يَسوعَ

وَكانَ أن تأنَّسَ يَسوعُ، "العَمَّانوئيلَ" أيّ بالفينيقيَّةِ-الُلبنانيَّةِ لا بالعِبريَّةِ-اليَهوديَّةِ: "إلَهُنا مَعَنا"، عَلى ما قالَهُ مَلاكُ الآبِ المُرسَلُ لِبشارَةِ العَذراءَ مَريمَ بالحَبَلِ الإلَهيِّ.

هوَ إبنُ اللهِ: اللوغوسُ-الكِلِمَةُ-العَقلُ. الحَيُّ. سَيِّدُ الأزمِنَةِ والأمكِنَةِ. مَن يُنادى بِهِ، وَمَن مَعَهُ يَدخُلُ البَشَرُ في علاقَةٍ إنسانِيَّةٍ، وَيَبلُغونَهُ لأنَّهُ هوَ مَن دَخَلَ حَيِّزَ الوجودِ مَعَهُم في عُمقِ جَوهَرِهِ.

هوَ يَسوعُ كاشِفُ إسمَ الآبِ الحَقيقيِّ، وَمَن سَيَقولُ، عَشيَّةَ آلامِهِ الخَلاصيَّةَ، وَقَد حَوَّلَ خُبزَ التَقدِمَةِ الى جَسَدِهِ وَخَمرَها الى دَمِهِ، فِداءً عَنِ الإنسانيَّةِ جَمعاءَ: "قَد أعلَنتُ إسمَكَ لِلَذينَ أعطَيتَهُم ليَ في العالَمِ. قَد عَرَّفتَهُم بإسمِكَ وَسأُعَرِّفُهُم بِهِ لِتَكونَ فيهِمِ المَحَبَّةُ الَتي أحبَبتَني وأكونُ أنا فيهِم" (يوحنا 17: 25-26).

هوَ اللهُ ذاتُهُ، رَفَضَتهُ القياداتُ الروحِيَّةُ اليَهوديَّةُ، بِشَريعَتِها، لا لِسَبَبٍ إلَّا لِهَذا. وَقَد جَعَلَتهُ أكثَرَ مِن سَبَبِ عَثرَةٍ بَل مُنطَلَقَ تَسَلُّطٍ عَلى الشَعبِ، بَعدَما شاءَتهُ على صورَةِ سَطوَتِها مُتعالياً خًفيَّاً، تًلَوِّنُهُ بِأهوائِها وَتَتَلَّونُ بِهِ كما بِرَغَباتِها، لا بالخُشوعِ المُتأمِّلِ بَل بالتَرهيبِ المُفرِطِ بالأباطيلَ.

وَكانَ أن حَكَمَت عَلَيهِ بالمَوتِ الفِعليِّ، بالمَوتِ النِهائيِّ، لِعِلَّةِ تَقريبِهِ السَماءَ مِنَ الأرضِ كُلِّها وَمنحِهِ كُلَّ إنسانٍ نِعمَةَ أن يَغدوَ إبنَ اللهِ.

أجَل! تَصادَمَت اليَهوديَّةُ مِن داخِلها... وَلا زالَت بَعدَ ألفَي عامٍ في تَصارُعٍ مع ذاتيَّتِها، بَينَ الحَقيقَةِ والشَريعَةِ، الواقِعِ والتأويلَ، الجَدوى والزَوالِ.

مُعجِزَةُ لبنانَ العَصيِّ على الإلغائيَّاتِ، تَمَيُّزاً مُحييَاً لِخُصوصيَّاتِ الغَيريَّاتِ وَصائِناً لَها، وأنتروبولوجيا قُدُسيَّةٍ راسِخَةٍ، أنَّهُ كَما هوَ ضَمانَةُ خَلاصِ الإسلامِ، كَذَلِكَ هوَ ضَمانَةُ خَلاصِ اليَهوديَّةِ، إنطِلاقاً مِن ذَلِكَ المُطلَقِ المَسيحانيِّ الَذي فيهِ، الموَلِّدِ لِقَناعاتٍ لَيسَت بِسَرجونيَّةٍ وَلِتِقَنيَّاتٍ هيَ نَقيضُ الإيديولوجيَّاتِ المُتأرجِحَةِ بَينَ التيوقراطيَّاتِ والعَدَميَّةِ، مُروراً بالإنتِفاعيَّاتِ مِنَ المآسيَ. ذَلِكَ المُطلَقُ المُتَقِّدُ نارَ تَحريرٍ وَتَحَرُّرٍ لِمَصيرِ الإنسانيَّةِ الروحيِّ، وَقَد إستَجرأ على أن يَكونَ بِهِ أرضَ الوَعدِ والميعادِ: أرضَ العَنصَرَةِ الدائِمَةِ المُتَمَسِّكَةِ بِرَجاءِ التَلاقيَ بَينَ الكَنيسَةِ والجامِعِ والحُسَينيَّةِ والخَلوَةِ والكَنيسِ، في إنتِماءٍ حُلوليٍّ يَربِطُ الأرضَ بالسَماءِ، وَلا يُلغيَ إحداهُما بالأُخرى بَعدَ ضَربِهِما بإنعِزاليَّاتِ بَعضِهِما البَعضَ العَتيقَةَ.