بفارق بسيط بينهما، قدّم كل من الرئيسين الاميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين رؤيتهما لواقع الصراع بينهما والذي تستضيفه الاراضي الاوكرانية. ولم يعُد من شك ان الحرب ليست بين روسيا واوكرانيا بل بين الروس والاميركيين بشكل غير مباشر، في محاولة واضحة لكل منهما في كسر نفوذ الآخر، والاهم ان روسياترغب في العودة الى كسر النظام الاحادي لواشنطن من خلال عودتها الى تقاسم العالمي من قبل قطبين، فيما تتأهب الصين للدخول كطرف ثالث في هذه الرقصة. ولكن المخيف ان هذه الرقصة تقوم على انغام التهديد بالسلاح النووي، الذي كان اساسياً في خطاب كل من الرئيسين، مع تأكيد بوتين ان بلاده علّقت العمل بمعاهدة "نيو ستارت"(1) (ولم تنسحب منها) وهو امر بالغ الاهمية.

عملياً، اعاد بوتين سبب التعليق الى مخالفة الولايات المتحدة احد البنود المهمّة، وهي التي تسمح لمفتشين من البلدين التأكد من تنفيذ المعاهدة، وقال ان الاميركيين لم يسمحوا للروس بأن يجولوا في المنشآت فيما طالبوا بالسماح للاميركيين بالقيام بذلك في روسيا، وهذا يعني ان الرئيس الروسي ابقى الباب مفتوحاً امام العودة الى المعاهدة انّما بعد اعادة التفاوض وتطبيق الشروط.

في المقابل، اعلن بايدن انه غير متخوّف من استعمال روسيا للسلاح النووي جراء تعليق العمل بالمعاهدة، ولو انه وصف القرار بأنه "خطأ كبير"، ما يعني انّ تلويح موسكو باستعمال السلاح النووي هو مجرد تهويل وارسال رسالة مفادها انه لن تسمح لاحد ان يهزمها عسكرياً في اي ميدان أكان في اوكرانيا او غيرها، لا بل هي مصرّة على ثنائيّة النفوذ العالمي او مثالثته اذا اقتضى الامر بدخول الصين على الخط.

ولانّ المسالة وجودية وتحدد مستقبل روسيا على المدى الطويل، لم يتورّع بوتين عن استخدام كل المواضيع لتجييش شعبه ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الثقافيّة والدينيّة والاجتماعيّة، فيما شدّد على ان اوكرانيا هي اراضٍ روسية، في اشارة لا تقبل الشك على الاستياء العارم من مدّ واشنطن يدها الى دول الاتحاد السوفياتي السابق، وكان تعليقه على القيم الاخلاقيّة والدينيّة لافتاً عند حديثه عن "اله الحياد".

اما بايدن فتقصّد "استفزاز" بوتين، انطلاقاً من اقتناعه ربّما بأنّ استخدام الروس للسلاح النوويّ هو من المستحيل او ضرب من الجنون لن يقدموا عليه، فأجرى لقاء مع قادة دول "مجموعة بوخارست"(2) واعتبر انهم يمثلون "الخطّ الامامي في الدفاع الجماعي لحلف شمال الاطلسي"، واكد ان الحلف بات اقوى من قبل. مما لا شك فيه انّ اوكرانيا هي الضحية الكبرى للصراع الاميركي-الروسي، وانه بعد عام على بدء الحرب فيها اصبحت الحلقة الاضعف، وانّ الحل الذي سيأتي في وقت لاحق سيكون حتماً على حسابها كونها لن تستطيع العودة الى ما كانت عليه، فيما التسوية تنتظر الوصول الى تفاهم على مدى قدرة روسيا العودة الى سياسة "نفوذ القطبين" العالمي"، لانّها استطاعت فعلاً الحاق اضرار بصورة اميركا وهي خطوة مهمة انما غير كافية من وجهة نظرها، خصوصاً وانه خسرت ايضاً جراء هذه الحرب في العديد والعتاد والاقتصاد، على الرغم من انّها لم تشهد انهياراً وتمكنت من الصمود.

اما واشنطن فتعمد الى الحدّ من الخسائر وترميم هيكل القطب الاحادي، مطمئنةً الى عدم الوصول الى حرب عالمية ثالثة لان استخدام النووي فيها سيكون حتمياً، وهو لذلك تجنب منذ اليوم الاول، ولا يزال، الدفع الى مواجهة عسكريّة مباشرة، وتمّ الاكتفاء بالدعم المالي واللوجستي والعسكري لاوكرانيا للقيام بهذه المهمة.

(1): وقّع الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما ونظيره الروسي ديمتري ميدفيديف في عام 2010 معاهدة نيو ستارت للحد من عدد الرؤوس الحربية النووية الإستراتيجية التي يمكن للبلدين نشرها، والاسم الرسمي للمعاهدة هو "تدابير زيادة تخفيض الأسلحة الهجومية الإستراتيجية والحد منها". ودخلت المعاهدة حيز التنفيذ في عام 2011، وتم تمديدها في عام 2021 لمدة 5 سنوات بعد أن تولى الرئيس الأميركي جو بايدن منصبه.

(2): "مجموعة بوخارست" تضم في عضويتها 9 دول، كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي السابق أو جواره، وهي الآن جزء من حلف شمال الأطلسي. وظهرت هذه المجموعة في عام 2015 في بوخارست عاصمة رومانيا، في أعقاب قرار روسيا ضم شبه جزيرة القرم. وتشمل كلا من: رومانيا، بولندا، بلغاريا، التشيك، هنغاريا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، سلوفاكيا.