روى الرئيس نبيه بري، منذ سنوات، قصة معبّرة سمعتها منه مع أصدقاء في مقرّه في عين التينة.

أوّلاً: أودّ قبل سردها ، الوقوف قليلاً عند قصّة ثانية حول شجرة التين كتبتها في السادس من كانون الثاني في عيد الغطاس الماضي. لم أنشرها حينذاك وها قد جان قطافها اليوم. شجرة التين تلك التي دمغت منذ 2023 سنة بالتمام والكمال، معتقدات المسيحيين على مختلف مذاهبهم، بأنّها الشجرة الوحيدة التي لم تركع للسيّد المسيح ليلة عيد الغطاس، خلافاً لكلّ الأشجار التي تكسو الأرض وتخرّ أمامه لتنال البركة عندما تكون أبواب السماء مشرّعة على الدنيا والملائكة تسترقّ إصغاءً إلى صلوات المؤمنات والمؤمنين.

لعن السيّد يسوع المسيح شجرة التين الواقفة، وسرعان ما وجدوها يابسة من جذور ها صباح اليوم التالي وكان نهار ثلاثاء.

هكذا اعتاد المسيحيون، وخصوصاً في القرى النائية الجنوبية التي ينبع حبري وتتسمّر جذوري فيها، أن يرموا بأشجار التين في مواقدهم عند الشتاء.كان نبيه برّي،بالمُقابل، وفقا لمعرفتي الشخصية الجيّدة به وبطين عجينته ولمعرفة غيري من نبهاء القوم وعقلائه في الداخل والخارج، يُدركون ويعترفون بأنّ الرجل نصب أمام قصره عيناً تتدفق بالماء الصافي لا تجفّ وكلّ همّه أن تبقى التينة خضراء هناك زرعها وسقاها ويسقيها،وقلّمها ويُقلّمها وعلّمها ويعلّمها بأن تخرّ أبداً للمسيح وحتّى للمسيحيين المؤمنين بالمسيح وبلبنان حيثما مرّوا وحلّوا.

ثانياً- أمّا حكاية الرئيس نبيه برّي، فتتعلّق ب "جوهر أزمات الحكم في لبنان قبل دستور الطائف وبعده".

روى قائلاً: عندما كنت وزيراً للدولة في حكومة رئيسها عمر كرامي عام 1991، وكان رئيس الجمهورية إلياس الهراوي مترئساً إحدى جلسات مجلس الوزراء، تم تعيين فؤاد الترك أميناً عاماً لوزارة الخارجية، مع أن هذا التعيين لم يكن بنداً مدرجاً على جدول الأعمال.

عند انتهاء الجلسة، ضاع الوزراء في قاعة مجلس الوزراء في بعبدا بين حقيقة التعيين وعدمه.

استوضحت الوزير محسن دلول، فأجاب: نعم، تم تعيين فؤاد الترك. سألنا إيلي حبيقة، فقال: كلاّ لم يعيّن! سألنا عبدالله الأمين، قال: نعم عينوه.. هكذا ضاعت «الطاسة» بين إجابات الوزراء المتناقضة. تشاورنا مجموعة وزراء على عجل وغضب، وذهبنا مباشرة إلى الرئيس عمر كرامي الذي كان غادر على عجل إلى منزله في شارع فردان.

قرعنا بابه. كان يصلي. فوجئ سائلاً: خير إن شاء الله.

قلت: هل عيّنت فؤاد الترك أميناً عاماً للخارجية؟

أجاب بالنفي مندهشاً.

كان لا بد من سؤاله هشام الشعار الأمين العام لمجلس الوزراء الذي أكد له التعيين. اتصل كرامي بالهراوي مستفسراً، فأكد له الأمر، دفع كرامي كرسياً أمامه برجله ، وقال للهراوي بنبرة إنفعالية حازمة: «اعتبر الحكومة مستقيلة".

كيف حصل الأمر؟

تابع بري: عندما هَمْهَمَ الرئيس الهراوي، نصف قاعد، بكلام غير مفهوم للأمين العام للمجلس مع انفضاض الجلسة، بتدوين تعيين الترك في المحضر بعد مغادرة رئيس الحكومة القاعة، راح الوزراء يتحادثون ويتسامرون وقوفاً، منهمكين إمّا في ترتيب حقائبهم وياقاتهم، أو يهاتفون أو يحادثون الصحفيين أمام باب القصر سائلين عن أمور كثيرة فاتتهم عبر المقررات التي تلاها وزير الإعلام.

تختصر هذه الرواية تشابك السلطات الثلاث المستمر والمزمن عبر الأحاديات والثنائيات والثلاثيات المعروفة يومها ب«الأونيكا والدويكا والترويكا» ليجرجر التاريخ نفسه شللاً اليوم في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، لا الإعلامية.

قد يتذكر اللبنانيون معارضات بري القويّة وإلحاحه طوال عمله الوزاري والبرلماني في ما بعد لوضع نظام داخلي لمجلس الوزراء، بينما كان البعض يعتبر المطالبة بالنظام الداخلي تخفي نوعاً من الافتئات على سلطات رئيس الحكومة السنّي؛ إذ راحت تتكرس مقولات ترى يأن السلطة بعدما انتقلت من رئيس الجمهورية منفرداً إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، يمكن أن تصير حكماً بيد رئيس الحكومة، لكنّ الأمر بقي مواضع اعتراضٍ ولو أنه حصل ولربّما تمّ تكريسه بالممارسة بالممارسة، وقد تم تبريره عبر التذكير والإستناد إلى تفرّد رؤوساء الجمهوريات بسلطاتهم التي راكمت مرارات الإحساس بالغبن والحرمان الذي لم يُبغه الطائف.

بقي الحال مثيراً للجدل تابعاً لشخصية رئيس الحكومة في ما بعد، إلى درجة صار معها بعض الوزراء «أوزراً» يستسهلون المعارضات والتحفظات المتعددة المواقع والأهداف، بما يشلّ عجلات الحكومات في عقد صلاحيات السلطات الثلاث المقفلة غير المتساوية ولا المتحاورة والممهدة أبداً للفراغ والسقوط الشاملين، وكأنّ لا رجال دولة ديمقراطيين في لبنان؛ بل رجال ​سياسة​ يحضنون جماعاتهم وبيئاتهم الحزبية والطائفية، وهنا لبّ المخاطر المتوالدة في الجمهورية المتعثّرة.

بكلمتين، إن فلسفة مونتسكيو بفصل السلطات الثلاثة وتوازنها وتعاونها، تشوهت حتى الآن في قيادة لبنان عبر تاريخه، وكأنهم يتلذّذون به فيلسوفاً مشنوقاً بحبال ساحاتهم وطوائفهم المتزاركة، مع أن النتيجة الإيجابية والمثمرة التي آلت إليها رواية الرئيس بري تمثلت يومذاك بإلغاء الرئيس الياس الهراوي الماروني، مرسوم تعيين فؤاد الترك الكاثوليكي وكلاهما بالطبع من مدينة زحلة، مع أن الترك كان جريئاً ولطالما ردّد مقولته من أن «لبنان واقع بين دولتين، واحدة لا تعترف بنا، وثانية لا نعترف بها»، إضافة إلى مبادئ راقية لم يؤخذ بها ومنها:

1- أنا موظف عند رب عمل واحد هو لبنان.

2- لم ينص الدستور اللبناني أبداً على مذهب رئيس الجمهورية المسيحي.

إذن كان يقول بأنّ "الوظائف لكل الطوائف".

3- إطلاق بيروت مركزاً دوليّاً للحوار بين الثقافات والأديان والإلحاح كي تتبنّاه الأمم المتحدة.

وللإنصاف في ذكرى اغتياله رفيق الحريري الثامنة عشرة في 5 شباط الفائت، اتصل الحريري بفؤاد الترك في العام 2003 من القصر الجمهوري، وعلى مسمع من الرئيس الهراوي، طالباً منه القبول بتعيينه مديراً عاماً في القصر الجمهوري، لكنّ الترك رفض مع العلم أنه سبق له أن شغل الأمانة العامة لوزارة الخارجية والمغتربين في 1983و1988، وكرّس جهوداً لتليين الصلابة يومذاك بين حكومتي المراسيم الجوالة بين الدكتور سليم الحص والجنرال ميشال عون، وقد كنت شخصيّاً يومذاك عضواً في مجلس إدراة تلفزيون لبنان وكان الهمّ البارز للرئيس الياس الهراوي إيصال صوته إلى زحلة والبقاع عبر محطّة الباروك.

غادر فؤآد الترك بعد ذلك سفيراً إلى فرنسا ثم إلى سويسرا.

صحيح أن معضلة تداخل المصالح حُلَّت شكلياً بصدور مرسوم ينظم عمل مجلس الوزراء، اكن كان وما زال من المفترض إصدار هذا التنظيم بقانون عن مجلس النواب، وهذا خطأ تنظيمي يجر وراءه منذ 1992، أكوام التشابكات والشلل بين السلطات المتداخلة، ورفض الحوار، وانتفاء الحلول الجذرية، واختلاط سلطات الداخل والخارج، بانتظار أن تفكّ الجمهورية حبال المشانق الكثيرة عن عنق مونتسكيو.

أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه

عضو الهيئة العليا للإشراف على الإنتخابات