لم تعد الأزمة بين التيار "الوطني الحر" و"السنّية السياسية" محطات عابرة. تبيّن أن هناك خلافات جوهرية بينهما، ليست وليدة المرحلة الحالية. بل هي وُجدت منذ زمن قديم، بسبب الصلاحيات التي نقلها مؤتمر الطائف -الذي عارضه رئيس الجمهورية السابق ميشال عون حينها- من رئاسة البلاد الى مجلس الوزراء مجتمعاً. مما يعني انها أزمة أبعاد طائفية سياسية، معطوفة على لعبة نفوذ وسلطة، إستراحت لفترات عند وجود مصالح متبادلة، ابرزها لدى حصول اتفاق بين رئيس الحكومة الاسبق سعد الحريري ورئيس التيار "الوطني الحر" النائب ​جبران باسيل​ عام 2016، أدّى لإنتخاب كتلة "المستقبل" النيابية عون رئيساً، ثم عادت الأزمة بذات ابعادها، لتطلّ بين رئيس حكومة تصريف الاعمال ​نجيب ميقاتي​ وباسيل حالياً.

عندما صرّح رئيس "الوطني الحر" بأنّ ميقاتي "قبل ما يترك الحكم، والأرجح بلا رجعة هالمرة"، أعاد الى ذاكرة المسلمين السنّة في لبنان عبارة قالها مؤسس "الوطني الحر" العماد ميشال عون للحريري في عام 2011: قطعنا له one way ticket.

يومها إشتدت الأزمة بينهما، ورعى التيار "البرتقالي" تأليف كتاب "الإبراء المستحيل" الذي اصدره تكتله "التغيير والاصلاح" عام 2013، قبل ان يمحو ذكره التيار نفسه بعد حصول اتفاق بين الحريري وباسيل.

وما إن حصلت أزمة "الشيخ سعد" في المملكة العربية السعودية حتى إستنفر عون دولياً، من أجل عودة الحريري الى لبنان. لكن التيار نفسه عاند الحريري مجدّداً، وأحبط كل محاولاته لتأليف حكومة جديدة عام 2021، إلى ان إتخذ الحريري قراراً بتجميد العمل السياسي، ثم الاقامة في دولة الامارات العربية المتحدة. حالياً، يكرر "العونيون" رغبتهم بعودة الحريري الى رئاسة الحكومة. هم يفتقدونه، بعدما جرّبوا ميقاتي في رئاسة مجلس الوزراء. لم يكن الأخير متساهلاً معهم، وذهب الى حد التصلّب بالتمسك بكامل صلاحياته، فظهر انه يدافع عن موقع رئاسة الحكومة ونفوذ السنّة في الدولة اللبنانية.

تزداد المشاكل بين التيار "البرتقالي" وميقاتي، وتتخذ اشكالاً متعددة من الكباش، بدا فيها الفريقان حادين في المواجهة السياسية: لم يتنازل ميقاتي، ولم يفاوض باسيل. رغم انه كان يصرّح بشأن ايجابية علاقته الشخصية مع عون. لكن المشكلة بين ميقاتي وباسيل وصلت الى حد ما عبّر عنه رئيس "الوطني الحر" بشأن إستبعاد اي دور لميقاتي. غير ان تمسكاً سنّياً برئيس الحكومة يزداد يوماً بعد يوم، ليغيب كل معارضيه عن الفاعلية في الساحة السنّية شعبياً وسياسياً، رغم محاولة شخصيات الاستفادة من الاجواء السياسية والاقتصادية في البلد، لرمي كرة المسؤولية في ملعب ميقاتي، ومغازلة باسيل ضمناً، طمعاً بالوصول الى السراي الحكومي.

ان استحضار المحطات السابقة والحالية في العلاقة بين "الوطني الحر" و"السنّية السياسية" تُثبت أن هناك ازمة حقيقية، لا يمكن لباسيل ان يتجاهلها، بإعتبار ان تركيبة لبنان الطائفية تفرض على كل طامح سياسي الاّ يخاصم طائفة عبر مهاجمة اركانها. حاول باسيل ان ينفتح على بدائل عن الحريري وميقاتي شمالاً وجنوباً وفي بيروت، لكن البدائل لا يمثّلون واقع الساحة السنّية. علماً ان حلفاء باسيل من الطائفة ذاتها، لا يتماشون معه علناً، ويخشون من ابداء اي موقف داعم له او دفاعاً عنه.

وعليه، فإن الواقع في نظام سياسي طائفي يفرض على باسيل الاعتراف الاّ وجود لحلفاء وازنين لديه عند المسلمين بكل مذاهبهم، وخصوصاً بعد انفراط عقد التفاهم مع "حزب الله"، عدا عن ازمته مع القوى السياسية المسيحية. فهل يستبعد باسيل نفسه عن اللعبة اللبنانية؟ ام هو يقصد افتعال الازمات مع القوى السياسية في الساحة الاسلامية، لتوظيفها في كسب تأييد مسيحي؟ رغم الاتهامات له التي تصبّ في مساحة الفرضية الثانية، لا ثبات لذلك، سوى أنه يواصل خساراته السياسية في الساحة الوطنية، بإنتظار تسويات ما، او انتخابات نيابية لا تزال بعيدة المدى.