قد يعتبر البعض انّ الموضوعية في التعاطي مع الاحداث والتطورات في لبنان والتي تفرض على المرء ان يكون قريباً من الأطراف اللبنانية المتعددة والمتنافسة سياسياً بشراسة، هو ميزة إيجابية لانها تسمح له برؤية الأمور من منظار شامل وواسع وفق وجهة نظر المعنيين جميعاً، بدل الاكتفاء من النظر اليه من وجهة نظر واحدة. في المبدأ، هذا الامر منطقي وواقعي، ويصح في كل دول العالم... الا في لبنان. وكي لا نكتفي بالحديث نظرياً، سنقارب الزيارة التي قام بها رئيس الجمهورية السابق العماد ميشال عون الى سوريا، و"اللعنة" التي يتحمّلها القريب من مؤيّديه ومعارضيه على حدّ سواء، لانّه عندها يمكن القول ان التشويش التام يضرب "الرادارات" التحليليّة والمنطقيّة ويتسبّب بتعطيلها لفترة، قبل ان تدخل رجاحة العقل والخبرة الى الساحة لحسم الأمور وإعادة الأمور الى نصابها التحليلي الموضوعي.

وفق ما تمّ رصده من مؤيّدي عون، فإن الزيارة أتت لتثبيت حضوره بعد انتقاله الى المنزل، والاظهار لمن يعنيهم الامر انه لن يكتفي بالبقاء في المنزل والغياب عن الساحة كغيره من رؤساء الجمهورية السابقين، وان علاقاته الإقليميّة والدوليّة لن تتأثر بخروجه من قصر بعبدا.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يصرّ مؤيدوه والقريبون منه على "تمرير" أجواء عن ان الزيارة أتت لتفعيل موضوع النازحين السوريين وإيجاد القواسم المشتركة بين لبنان وسوريا لاعادتهم الى بلدهم، في ظلّ قرب انعقاد مؤتمر بروكسل من جهة، والخطوة اللبنانيّة العمليّة والمتمثّلة بقرب وصول وفد رسمي الى سوريا لبحث الموضوع مع السلطات السورية.

في مقابل هذه الصورة، يؤكّد معارضو عون انّ الهدف الوحيد من زيارته الى سوريا هو الترويج للنائب جبران باسيل وللتخفيف من حدّة الخلاف المستجدّ بينه وبين حزب الله ، خصوصاً وانّ خطوط الاتصال بين عون والحزب باتت "صدئة" (وفق مصادر معارضة) وان رئيس الجمهورية السابق قلق على مسار العلاقة بين الحزب وباسيل. لذلك كان "الاستنجاد" بالرئيس السوري بشّار الاسد للتخفيف قدر الإمكان من حدّة التوتر القائم، مع الاخذ في الاعتبار ان باسيل غير قادر بعد على زيارة سوريا بنفسه بسبب تسارع التطورات على الساحة السياسية وقرب موعد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية لتنتهي بذلك المعلومات التي وفّرتها المصادر المعارضة لعون.

وبعد وضع هذه المعلومات المتناقضة في الغربال، يجب الاعتراف بأن توقيت الزيارة مفاجئ، وفي حين انه لا يمكن التعويل على تدخل سوري مباشر في الانتخابات الرئاسية لسببين أساسيين: الأول هو ضعف النظام السوري الذي لم يعد يتمتع بالنفوذ نفسه الذي كان عليه قبل العام 2011، وباتت سياساته الخارجية بحاجة الى تنسيق مع روسيا وايران، وان الانفتاح العربي لم يكن ليحصل لولا استعادة حيوية العلاقة بين موسكو وطهران مع الدول الخليجية وفي مقدمها السعودية. وعليه، فإنه من غير المنطقي الرهان على تدخل الأسد في الانتخابات، ولكنه لا يزال "يمون" على بعض الأطراف ومنها حزب الله لجهة بعض التفاصيل اللبنانية فقط لا غير.

ومع استبعاد خيار الترويج لباسيل، يبقى خيار التوسط لرئيس التيار الوطني الحر مع الحزب، وهي نظرية قابلة للبحث مع العلم ان الطرفين (أي الحزب والتيار الوطني الحر) حريصان على عدم قطع العلاقة لما لها من منافع للاثنين معاً، وان الخلاف الحاصل على المستوى الرئاسي، لا يفسدّ بالودّ قضية، خصوصاً وان الوضع الحالي ينفع باسيل من ناحية العصب المسيحي، وهو الامر نفسه الذي يرتد ايجاباً على الحزب الذي يهمه التحالف مع طرف مسيحي قوي على الساحة اللبنانية.

اما خيار التسريع في ملفّ عودة النازحين، فعلى الرغم من انّ عون كان من بين أوائل الداعين الى تنظيم هذا النزوح والمطالب بعدها باعادتهم الى بلادهم، غير انّه يدرك تماماً بفعل السنوات التي قضاها في بعبدا، ان المجتمع الدولي هو من يملك مفتاح الحلّ في هذا الملف، ولا يمكن لسوريا او لبنان او غيرهما من اللاعبين الثانويين اتخاذ القرار الحاسم في هذا الموضوع.

وعليه، ومع سقوط الصفة الرسمية لعون خلال الزيارة بمعنى عدم القدرة على وضع أي اتفاق حصل او قد يحصل، موضع التنفيذ الرسمي بين البلدين، فإنّ المعطيات تصبّ في خانة انّ الزيارة كانت لاسباب شخصيّة وهي تضرّ عون اكثر مما تفيده، لانّه لم يحمل (ولا يتوقع ان يحمل بعدها في المدى القريب او البعيد) أي ثمار عمليّة على الساحة اللبنانيّة، ويمكن اعتبارها خطوة ناقصة في هذا المجال.