يقصد الكهنة المستشفيات بشكل دائم لافتقاد المرضى والصلاة لأجل شفائهم، ومسحهم بالزيت المقدّس، أو تزويدهم بالقرابين. كلّما زرت مستشفى أزداد إيمانًا أنّ الله واقفٌ على باب كلّ مريض يقرع على صدره ليعزّيه ويقوّيه ويمنحه الصبر والإيمان.

منذ فترة كنت في زيارة مريض في أحد المستشفيات. خرجت من عنده ولكنّ صوت وجعه بقي في أذني، بان لي أنّه وجعٌ لا يحتمل. بطبيعة الحال، عند دخول المستشفيات ينتصب أمامك مرضى يعانون اوجاعًا مبرحة، وإلا لما كان المستشفى وجهتهم، إذ لا يدخله أحدٌ للتنزّه أو للسياحة والاستجمام، علمًا أنّ الناس، بمعظمهم في وطننا، لم يعد بمقدورهم طرق باب المستشفيات، بسبب الكلفة العالية للاستشفاء، والغياب الكامل لدعم وزارة الصحة، والضمان الاجتماعي، وبعض مؤسسات الدولة التي تُعنى بهذا القطاع. أمّا شركات التأّمين فحدّث ولا حرج.

بينما كنت خارجًا من المستشفى، وأنين المرضى في أذني، تعثّرت وسقطتُ ارضًا. فجاء تعثّري، ربما لكي أعيش بعضًا من معاناة أوجاعهم. بعد أن لملمت نفسي وواصلت المسير مع أوجاعي، خطرت على بالي تلك الآية من سفر المزامير: "تَأْدِيبًا أَدَّبَنِي الرَّبُّ، وَإِلَى الْمَوْتِ لَمْ يُسْلِمْنِي" (مزمور 118: 18).

هذا التعثّر حملني على التساؤل، اذا كان المرض تأديبًا أم أنّه افتقاد من العليّ؟ هل الضيقات، بالإجمال، التي يمرّ بها الإنسان، رغم قساوتها، هي تأديبات من الله الآب الذي يحب أولاده؟.

جاءني الجواب من عند المفسّرين و"مدمني" الكتاب العزيز، الذين يقولون إنّ الله يسمح بهذه التأديبات، بهدف خلاص شعبه من ضعفهم وخطاياهم. هو لا يسبّب الألم ولا النوائب، بل يسمح بها وكأنّها اختبارٌ يمحّص الله به ذهبَ الإنسان. معدنُ الإنسان، كلّ إنسان، يظهر على حقيقته في المصاعب. لذا بإمكان المرء أن يرى الألم فرصة لكي يختبر عِشرةَ الله أثناء الضيقات، فيحيا ولا يغلبه موت الخطيئة، بل يتمتّع بحياة البرّ.

الله يؤدّب أولاده لكي يكمّلهم (عبرانيين 5:12-11)، هذا ما يمكن استنتاجه من هذه الآيات في رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين. الله يسمح بالضيقات لا للانتقام ولا للدينونة بل لمساندتنا وتأديبنا، أي لأجل النفع الروحيّ. الله لو امتنع عن تأديب أحد فهذا يعني اليأس من شفائه. ولكن، كلّما نضج الإنسان روحيًا، أدرك أن التأديب كان سرّ نجاحه.

على المؤمن ألَا ينزعج من كثرة الضيقات، فهي سبيلنا إلى الملكوت، وإن كانت كثيرة، فسيختبر فيها بركات وفيرة لا يستطيع تذوّقها خارج الضيقات، فيفرح قلبه أكثر من كل مَن حوله.

نحن لا نطلب الألم ولا نرفضه، متى حلّ فينا. وفي هذا السياق يقول المطران جورج خضر: "أن توجع نفسك عمداً لتتّحد بآلام المسيح، هذا ليس من تعليم كنيستنا. الدنيا فيها آلام كثيرة، فلا تحتاج أنت إلى الإكثار من آلامك عمدًا. طلبُ الألم والسعي إليه ليس من المسيحيّة في شيء. المسيحيّة ليست ديانة الألم، كما يظن البعض. هي ديانة القيامة أي التخلّص من الألم. نحن ما جاء خلاصُنا من آلام المسيح إلا لأنّها وعدٌ بالقيامة".

يكشف لنا الإنجيل المقدّس كيف نخرج من الآلام، وذلك باحتمالها وتحويلها إلى قوة إيمان وطاقة إبداعيّة تقرّبنا من الخالق. هكذا نرتقي سلّم الفضائل للوصول إلى ملكوت الله. يكفي أن نردّد عبارة "يا رب ارحمني"، كما وردت على لسان مرضى كثيرين قصدوا السيّد المسيح بإيمان مطلق. المرضى في الكتاب المقدّس كانوا يطلبون الرحمة لا الشفاء. وحدها رحمة الله قادرةٌ على تعزية المنكسري القلوب والمرضى. صحّة الجسد لا تعني قرب الإنسان من الله. صالبو المسيح كانوا أصحّاء الجسد ولكن "مرضى القلوب".

من اكتشف عمق الرحمة الإلهيّة، نال نعمةً من العليّ، وأدرك عندها أنّ الألم خلاصٌ له وليس قصاصًا.