بَلى! تَنبُتُ جُذورٌ في السَماءِ.

والأصَحُّ أنَّ السَماءَ جُذورٌ. هي جُذورُ لبنانَ.

يُستَضاءُ مِن لبنانَ، لَيسَ بِوَمَضاتٍ، بَل بِيَقينِ فَجرٍ أزَليٍّ يُبيدُ الصَحارى وَيُطِلُّ على البِحارِ بِعُلوِيَّةٍ تَرتَقِبُ الطَيِّباتِ الطالِعاتِ الى آفاقَ الخَلقِ. حَسبُهُ أنَّ الدُهورَ مَنطِقُهُ، وأركانُها مِن عَبقَريَّتِهِ. وَهوَ في كُلِّ غُربَةٍ يُعَمِّقُ إلتِماسَ الفَرَحِ في السَلامِ.

لبنانُ المُضيءُ نَقيضُ الخَوفِ الكُلِيِّ، يَنقُضُهُ في عُمقِ أعماقِهِ المَحتومِ بِوِحدَةِ المَوتِ في هُوَّةِ الجَحيمِ الَذي هو التَخَلِيَّ. وإذِ المَوتُ والجُحيمُ مُتَرَادِفانِ، يُشَلِّعُ أبوابَهُما باللامُتناهي الَذي فيهِ وَهوَ تَحقِيقُ الدائِمِ. هوَ غَمرٌ يُنَمِّي وَلا يُشَتِّتُ، يَصونُ وَلا يَعبَثُ، يَرفَعُ وَلا يَنحَدِرُ.

أفي وَقفَةِ لبنانَ هَذِهِ حَجٌّ أبَدِيٌّ مِن مَناسِكَ الضِياءِ الى الإنعِتاقِ مِن غَياهِبَ عُزُلاتِ الشَرِّ؟ يَفنى كُلُّ سَرابٍ، وَهوَ هوَ وإن صَلَبَتهُ خياناتُهُمُ. يَموتُ وَيَقومُ. ألفَ مَرَّةٍ ألفاً يُصلَبُ، وألفَ مَرَّةٍ ألفاً يَقومُ. نَصيرُ الحياةَ، وَهوَ مَنبِتُها في حَضرَةٍ، وأيُّها؟ حَضرَةُ اللهِ الَذي جَذَّرَهُ في السَماءِ، وَمِنها وإلَيها.

ها هوَذا إعتِرافُ الآبِ لِخَلقِهِ: "أكونُ لهُ كالنَدى فَيُزهِرُ كالسَوسَنِ وَيَغرُزُ جُذورَهُ كَلُبنانَ. وَتَنتَشِرُ فُروعُهُ وَيَكونُ بَهاؤهُ كالزَيتونِ وَرائِحَتُهُ كَلُبنانَ. فَيَرجِعونَ ليَجلِسوا في ظِلِّي وَيَحيَونَ كالحِنطَةِ وَيُزهِرونَ كالكَرمَةِ، فَيَكونُ ذِكرُهُ كَخَمرِ لبنانَ. (...). أنا أُجيبُهُ وأرعاهُ أنا الَذي كالسَروَةِ الخَضراءِ وَمِنِّي يَخرُجُ ثَمَرُكَ." (هوشَعُ 14/5-8).

وَأيُّ جُذورٍ؟ "وَأَغرُسَهُمُ عَلى أرضِهِمِ وَلا يُقتَلَعونَ فيما بَعدُ مِن أرضِهِمِ" (عاموسُ 9/15) هَكَذا يَعِدُ الرَبُّ.

ها هوَذا الثابِثُ بِلُبنانَ تَكونُ جُذورَهُ، وَرائِحَتَهُ، وَذِكرُهُ كَلُبنانَ: مِن خَمرِهِ مِعناهُ وَفَرَحُهُ، وَمِن زَيتونِهِ إمتِلاؤهُ مِنَ الروحِ، وَمِن كَرمَتِهِ فَيضُهُ. وَيَستَظِلُّ في ظِلِّهِ فَيَحيا مِن سُكناهُ هَذا. وَيَتَبَرعَمُ مِن لبنانَ لِيَحكُمَ عَلى الإثمِ بالإنتِصارِ عَلَيهِ.

أفي ضَرورَةِ لبنانَ هَذِهِ ضَمانَةُ حَجِّهِ لِلخَلقِ بِأسرِهِ، أيّ أن يَكونَ في كُلِّ آخَرَ يَموتُ لِيحيا مِن جَديدٍ؟ مِن جُذورِهِ تأكيداتُ إستِمرارِ كَينونَتِهِ في كُلِّ آخَرَ مَصلوبٍ، مُرمَى في أحضانِ مَوتٍ. حُدودُهُ مَساحاتُ السَماءِ وَكُلِيَّتُهُ مُدرِكَةٌ جَوهَرَ دَيمومَتِهِ في مُقاوَمَةِ الأزمِنَةِ، إذ لا إلَّا هوَ يُقيمُ كُلَّ آخَرَ مِنَ المَحتومِ الى أرضِ الأحياءِ... وَقَد غَدا الآخَرُ غُصنَاً مُثمِراً مِنهُ. كِفايَةً يأتَمِنُها على الإستِمرارِيَّةِ، وَبِهِ تَتَمَكَّنُ. لا في الظِلِّ، لا في الوَهمِ، لا في المُخادَعَةِ. بَل في الحَقيقَةِ. في الواقِعِ. في التَجَاوزِ. وَإذِ المَوتُ صالِباً، عُرياً، ظُلماً، يُفَرِّقُ، هوَ لبنانُ الَذي يُقيمُ في الغَلَبَةِ، في الرُسوخِ، في العَطاءِ. يُوَحِّدُ في الإنتِصارِ عَلى التَوَحُّشِ. هوَ لبنانُ العَريسُ يَغلِبُ مِسخَ العُنفِ الدَميمِ.

إصطِفاءُ النارِ المُقَدَّسَةِ

لبنانُ-الجُذورِ يُحَرِّرُ الحَياةَ بالنَقاءِ. وَمِنهُ إصطِفاءٌ يُحَوِّلُ المَصلوبَ خُبزاً مُقَدَّساً لِنَبضِ الحَياةِ.

أهوَ نارٌ مُقًدَّسَةٌ؟ لا يُمتَلَكُ هوَ مِن أحَدٍ وَلا يُستَعبَدُ. وَمِن تَشَوُّقِهِ لِذاتِ مَن إبتَدَعَ لَهُ جُذورَهُ هَذِهِ يَتَهادى طَليقَ الحَياةِ بالحَياةِ فَوقَ كُثبانِ الرِمالِ والبِحارِ.

وثُوقُهُ بِمَن إبتَدَعَهُ هَكَذا لا حَدَّ لَهُ، وَهوَ مُنذِرٌ مَن يَتَطاوَلُ على المَسِّ بِجُذورِهِ: "إنَّ كّأسَ يَمينِ الرَبِّ تَنقَلِبُ عَلَيكَ وَيَنقَلِبُ العارُ عَلى مَجدِكَ لِأنَّ العُنفَ بِلبنانَ يُغَطِّيكَ (...) بِسَبَبِ دِماءِ البَشَرِ والعُنفِ بالأَرضِ وَبالمَدينَةِ وَجَميعِ الساكِنينَ فيها." (حَبقوقُ 2/16-17).

لبنانُ-جُذورُ-النارِ-المُقَدَّسَةِ، فيهِ وَحدَهُ، وَمِنهُ، حَجَرُ الزاوِيَةِ وَحَجَرُ الأساسِ مُتَلازِمانِ.

لا إلَّا لبنانُ في السَماءِ!.

بَلى! لبنانُ جُذورُهُ السَماءُ!.