أجملُ ما في الخلق الإنسانُ. وقد تكون أيقونة خلق الإنسان أجمل الأيقونات، بحيث نرى فيها أنَّ وجه آدم هو وجه الربِّ يسوع المسيح، والربُّ ينفخ في آدم نسمة الحياة. هذا ليقول لنا: «لا تقل فقط يا إنسان إنَّك من التراب وإلى التراب تعود، بل إنَّك مِن الله وإليه تعود».

الأيقونة تعطي مقصد وجودنا، أي أن يكون وجهنا مثل وجه يسوع. هذا يعني أن نكون كلُّنا مثله، لأنَّ الوجه هو شخصنا بالكامل. هو قلبنا ومشاعرنا وتصرُّفاتنا ومكنوناتنا وذهننا، هو نحن بالكلِّيَّة. فما أجمل الوجه المستنير. من هنا تمامًا تأتي المقولة الشعبيَّة: «هذا الإنسان عليه وجه الله». بالمقابل، هناك مقولة شعبيّة تشير إلى عدم الصدق: "هذا الشخص عنده ألف وجه ووجه". ارحمنا يا رب.

يطالعنا الكتاب المقدَّس في الآية الثانية من الإصحاح الأوَّل فيه، بالتالي: «وكانت الأرض خَرِبة وخالية، وعلى وجه الغَمر ظلمة، وروح الله يَرِفُّ على وجه المياه» (تكوين 1: 2).

كلمة وجه تتكرَّر مرَّتين، وهذا بالأسلوب الساميِّ تأكيد.

قبل الغوص في معنى «الوجه»، لا بدَّ من أن نتوقَّف عند عبارة «كانت الأرض خَرِبة وخالية».

تفاسير كثيرة أتت حول معناها، كذلك الترجمات عن النصِّ العبريِّ الأصليِّ «wā-ḇō-hū ṯō-hū»، ولكنَّ جميعها صبَّ في المعنى العميق للآية: ليس لها شكل، أو شكلها غير منتظم، كذلك تفتقر إلى الترتيب، وأيضًا بدون شكل أو بنية واضحة. بالإضافة إلى أنَّها مساحة واسعة لكنَّها خالية، وتفتقر إلى الحياة. وإن لم توجد الحياة فلا يوجد نور، لهذا، فأوَّل ما خلق الله كان النور، إذ قال: «ليكن نور»، فكان نور (تكوين 1: 3)، لتكون هذه الآية التالية.

كما أتت ترجمتها في مرجع أرثوذكسيٍّ بيبليٍّ مهمٍّ جدًّا: «غير منظورة وغير مكتملة». هذا كلُّه يعني أنَّه مهما كانت الأرض كبيرة تبقى غير منظورة دون النور، ولم تصل إلى كمالها بعد. وهذا بالتأكيد ينطبق علينا، فمهما علا شأننا وعظمنا، فبدون النور، وتحديدًا النور الإلهيَّ، نبقى قابعين في الظلام الحالك، وفارغين. ويكون فينا الخراب والتشويش والإنتاج غير المثمر، والفشل والمجد الباطل، وما يتبعه من هلاك. بكلمة واحدة: إنَّها الفوضى رديفة الخراب.

يعطينا سفر أيُّوب معنًى واضحًا جدًّا في ذلك، فيقول: «يعرِّج السَّفْرُ عن طريقهم، يدخلون التيه (tō-hū) فيَهلكون» (أيُّوب 6: 18).

حياتنا كلُّها سفرة في الزمن المحدود لنعبر إلى الزمن غير المحدود، إلى الحياة الأبديَّة. فإن أضعنا الطريق الَّذي هو المسيح، وفقدنا النور الإلهيَّ الَّذي هو أيضًا المسيح، دخلنا التيه، وضللنا في أهوائنا القاحلة والمميتة، وخسرنا المياه العذبة الَّتي لا تنضب، مياه الروح القدس الَّتي تروينا وتشفينا وتهدينا.

بالعودة إلى الآية الثانية من سفر التكوين، نجد الارتباط الوثيق بين الأرض خربة وخالية، وبين عبارة «وعلى وجه الغَمر ظلمة، وروح الله يرفُّ على وجه المياه». فكلمة وجه تشير أيضًا إلى الشيء المطلِّ. لهذا نجد في الترجمة اليونانيَّة لكلمة وجه (PANIM) العبريَّة، نجد كلمة «فوق» (epáno) (ἐπάνω).

هنا نسأل أنفسنا: «ما الَّذي يحوم فوقنا وعلى وجهنا، ويسيطر علينا؟ أهي الخطيئة أم روح الله؟». ولكن مهلًا، مهما كبرت الخطيئة لا تستطيع أن تصبح فوقنا وتتغلَّب علينا، إذا تبنا توبة صادقة، وطلبنا روح الله المحيي القدّوس.

كذلك، إذا تابعنا قراءتنا للكتاب المقدَّس وتعمَّقنا فيه، لما فيه من فائدة وخلاص لنفوسنا، لَوَجدنا كلمة «الوجه» تأتي في آيات مهمَّة جدًّا، نأخذ منها العبر النافعة، كذلك نجد التنوُّع في الكلمات والمفردات المستعملة، وذلك بهدف إضفاء غنًى للهدف المنشود.

ففي المزمور الشهير في صلواتنا، المزمور الخمسين، المعروف بمزمور الرحمة، نقول: «لا تطرحني من قدَّام وجهك، وروحَك القدُّوس لا تَنزِعْهُ منِّي» (51: 11).

الكلمة في الأصل العبريِّ لـ«وجهك» هنا هي الحضور والشخص From Your Presence، وهكذا أيضًا تأتي في الترجمة اليونانيَّة«προσώπου/ prosopou» الَّتي تعني الوجه والشخص معًا.

نعم، إلهنا إله شخصيٌّ وتجسَّد وصار إنسانًا وبقي إلهًا بالطبع. هو يكلِّمنا وجهًا لوجه، ولا يريدنا أن نهرب من أمامه، كما حصل مع آدم وحوَّاء قديمًا بعد أن خالفا وصاياه: «وسمعا صوت الربِّ الإله ماشيًا في الجنَّة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الربِّ الإله في وسط شجر الجنَّة» (تكوين 3: 8).

فلنتُبْ عوضًا من أن نهرب ، لأنَّه لا يوجد مكان أوَّلًا لنختبئ فيه من وجه إلهنا، ومن حضوره وشخصه، وثانيًا هو ينادينا كما نادى آدم: «أين أنت؟» (تكوين 3: 9).

لنسأل أنفسنا: «أين نحن؟ أفي طريق الربِّ أم في طريق التيه والضلال؟».

طريق العودة دائمًا مفتوحة، وما أجمل ما نصلِّيه في صلاة التاسعة، أي صلاة الساعة الثالثة بعد الظهر، الَّتي فيها طُرِدَ آدم وحوَّاء من الفردوس، وأيضًا فيها انحدر الربُّ إلى الجحيم ليقيمهما من جديد، ويقيمنا جميعًا معه من بين الأموات، ويشرق نوره في حياتنا، فنقول ما أتى في المزمور: «ليترأَّف الله علينا ويباركنا، ويضئ وجهه علينا ويرحمنا» (مزمور 67: 1).

ختامًا، المعنى اللاهوتيُّ لكلمة وجه، يتخطَّى البُعد اللغويَّ، فيتكلَّم على شخص ذي قيمة وُجوديَّة وهو في شركة مع الآخرين. وهي شركة محبَّة لا محدودة. من هنا أتى الله إلينا من فيض محبَّته اللامتناهية، لنكون في شركة معه، ويعيد وجهنا الضائع إليه، ولا نكون شخصية خَرِبة وخالية، ويغمرنا الظلام.

إلى الربِّ نطلب.