قد تكون الهدنة الإنسانية المُعلَنة في قطاع غزة، والتي انعكست لبنانيًا على شكل هدوءٍ نسبيّ حَذِر على الحدود الجنوبية، "فرصة" لنقاشٍ "ساخن" بدأه البعض، في ذروة القصف والاشتباكات، يرتبط بدور الإعلام في تغطية الحروب بصفة عامة، وما إذا كانت رسالته النبيلة المفترضة تستحقّ فعلاً "المخاطرة"، خصوصًا في مواجهة إسرائيل، التي أصبح واضعًا أنّها لا تعير وزنًا للقانون الدولي الإنسانيّ، ولا لواجب حماية الصحافيين.

لعلّ أعداد الصحافيين الذين قضوا منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة تكفي للدلالة على ذلك، وقد تجاوز الرقم 60 صحافيًا في القطاع المُحاصَر، تعرّض القسم الأكبر منهم للاستهداف الإسرائيلي المباشر، وهم يقومون بواجبهم المهنيّ في نقل وقائع الحرب، وهو الأمر نفسه الذي حصل مع الصحافيين اللبنانيين، الذين شهدت الحدود الجنوبية على أكثر من ثلاثة حوادث "قاتلة"، وإن وُضِع بعضها في إطار "الترهيب والترويع".

لكنّ الأمر تجاوز هذا الإطار الضيّق، مع خسارة العديد من الصحافيين لحياتهم، من دون أن يقترفوا أيّ ذنب، كما حصل مع مصوّر وكالة رويترز عصام عبد الله، ومع طاقم قناة "الميادين" المؤلف من المراسلة فرح عمر والمصوّر ربيع المعماري، إضافة إلى الشاب المتعاون حسين عقيل، فيما نجت طواقم صحافية بالجملة من قصف إسرائيلي استهدفهم قبل ذلك خلال جولة إعلامية كانوا يقومون بها على الهواء مباشرةً.

وإذا كانت صورة مراسلة قناة "الجزيرة" شيرين أبو عاقلة بدمائها على الأرض لا تزال ماثلة في الأذهان، وقد كرّست واقع أنّ إسرائيل لا تكترث لكلّ المعاهدات والقوانين، فإنّ استهداف الصحافيين بهذا الشكل من غزة إلى جنوب لبنان يثير مجدّدًا الكثير من علامات الاستفهام، فهل يستحقّ الأمر فعلاً "المخاطرة"؟ وهل باتت "مهنة المتاعب" أشبه بمهمّة "انتحارية" في مكانٍ ما؟ وأيّ دور للمؤسسات الإعلامية ولجان حماية الصحافيين وسط كلّ ذلك؟.

خلال الأيام القليلة الماضية، وتحديدًا بعد استهداف فريق قناة "الميادين" في جنوب لبنان، فُتِح نقاش التغطية الإعلامية على مصراعيه في الأوساط الداخلية، وخصوصًا على منصّات التواصل الاجتماعي، حيث أمكن رصد أكثر من وجهة نظر، تستند الأولى إلى الدور الجوهري للإعلام في التغطية، انطلاقًا من رسالته السامية، فيما تذهب الثانية، وبعض المنادين بها من أهل المهنة، إلى الدعوة لوقف التغطية بشكلها الحاليّ على الأقلّ، حمايةً للصحافيين.

بالنسبة إلى الرأي الأول، فلا غبار عليه، كونه يتماشى مع الصيغة "التقليدية" للإعلام، الذي يبقى دوره أن ينقل الواقع كما هو، ومن أرض الحدث، بمعزل عن كلّ المَخاطِر، التي يدركها العاملون في القطاع منذ اليوم الذي اختاروا فيه خوض غمار "مهنة المتاعب"، وبالتالي فمن غير الجائز الانكفاء عن أداء هذا الدور بحجّة "الخطر"، ولا سيما أنّ الصورة باتت بحدّ ذاتها "سلاحًا" يتفوّق تكنولوجيًا على أشدّ أنواع الأسلحة.

ويقول أصحاب هذا الرأي إنّ الاستهداف الإسرائيلي المباشر للصحافيين، والذي قد لا يكون بخافٍ على أحد، يهدف إلى "إسكات" الإعلام وثنيه عن نقل الحقيقة، وهو ما يشرح تطور الأمر من "الترويع" إلى "القتل"، وبالتالي فإنّ أيّ انكفاء عن التغطية سيكون بمثابة "تطبيع" مع أهداف إسرائيل، علمًا أنّ الإعلام أضحى جزءًا لا يتجزّأ من كلّ الحروب، وهو حاضرٌ في كلّ ساحات القتال، وآخرها في أوكرانيا، ما يجعل غيابه عن ساحة الجنوب كما غزة أمرًا "غير طبيعي".

لكن، إذا كانت رسالة الإعلام السامية تقتضي نقل الصورة كما هي، وتغطية الجرائم الإسرائيلية بلا تدخّل أو مونتاج، فإنّ هناك من يطرح أسئلة "إشكاليّة" من نوع آخر، ويعطيها "مشروعيّة" قد يراها البعض مثار جدل، على غرار: هل يستحقّ الأمر فعلاً مثل هذه "المخاطرة" التي تجاوزت قواعد الاشتباك وحدوده؟ وهل المطلوب من الصحافي أن يجازف بحياته وهو يدرك أنّه أصبح "هدفًا عسكريًا"، وإن لم يكن مشروعًا؟.

وإلى هذه الأسئلة، ثمّة من أصحاب هذا الرأي من يضيف سؤالاً آخر حول "القيمة المضافة" التي تقدّمها مثل هذه التغطية، بعدما أضحت تقتصر على نقل صورة دخانٍ منبعِث من مكانٍ بعيد في أفضل الأحوال، بعد "ضوابط" وضعها الصحافيون أنفسهم لعملهم، إثر الحادث الذي أودى بحياة المصوّر عصام عبد الله، والذي شكّل "جرس إنذار" للكثيرين، جعلهم يعيدون النظر بطريقة تعاطيهم مع الأحداث، من دون أن ينجح ذلك في "ردع" الإسرائيلي.

وعلى الرغم من الهجوم الذي طال أصحاب هذا الرأي، والذي اتخذ طابعًا "تخوينيًا" في جانب منه، باعتبار أنّهم يقدمون "خدمة مجانية" لإسرائيل، عبر الدعوة الصريحة لوقف التغطية، وهو ما تريده أصلاً، فإنّهم يشدّدون على أن كل ما يطلبونه هو من باب "طلب الحماية" ليس إلا، حرصًا على حياة زملائهم، مشيرين إلى أنّ نقل جرائم إسرائيل ما عاد ذي جدوى، فالمجتمع الدولي لا يكترث، ولا حسيب أو رقيب، ما يعني أنّ المجازفة بالحياة لن تنفع.

بين الرأيين "المتناغمين" في الغاية وهي حماية الصحافيين، و"المتناقضين" في الوسيلة، من حيث استكمال التغطية كما هي أو حجبها، قد يكون المطلوب الوصول إلى "توازن" يحقّق الأمرَين، فوقف التغطية خلافًا لما يقوله البعض قد لا يكون خيارًا "واقعيًا"، لأنّ تداعياته قد تكون مزيدًا من القتل للمدنيّين، وليس خفضًا للجرائم، واستكمالها بالشكل نفسه، ومن دون أيّ تغيير، قد يكون "مجازفة" تتطلّب مقاربة مختلفة في الشكل والمضمون.

بهذا المعنى، فإنّ الاختلاف قد يكون مرّة أخرى على ما إذا كانت "الغاية تبرّر الوسيلة" أم لا، لكنّ الثابت والحقيقي أنّ هناك صحافيين استشهدوا من دون أن يقترفوا أيّ ذنب، بل لأنهم كانوا يمارسون عمهم بكلّ بساطة، وأنّ حقّهم لا يجب أن يضيع، مهما تفاوتت التقديرات. بيد أنّ ما هو ثابت وحقيقي أيضًا، هو أنّ حماية الصحافيين لا ينبغي أن تبقى مجرّد شعار، وأنّ المطلوب من المؤسسات المعنيّة أن تلعب دورها بلا مماطلة، ولو كان "الجلاد" يحظى بالدعم!.