قبل أن ننتقل إلى عام جديد نودِّع ليتورجيًّا عيدَ الميلاد المجيد. لكلِّ عيد سيِّديٍّ[1] كبير في الكنيسة فترةٌ زمنيَّة لنودِّعه. نودِّع عيدًا وننتقل إلى عيد آخر. هكذا هي السنة الليتورجيَّة الكنسيَّة الَّتي تبدأ في اليوم الأوَّل مِن شهر أيلول.

نودِّع الميلاد إذًا طقسيًّا ولكن لا نودِّعه عيشًا، بل نودِعُه في قلوبنا ونفوسنا لنولد ولادة جديدة مع الربِّ، وإلَّا نكون نضيف سنة جديدة على مسيرتنا الأرضيَّة، ونزيد على عمرنا رقمًا لا معنى له ولا خلاص. ولنتذكَّر أنَّ كلَّ سنة ميلاديَّة جديدة هي نسبة لميلاد المخلِّص، الإله المتجسِّد، وذلك لكي نكتشف إنسانيَّتنا الَّتي أتى يسوع إلينا لينتشلها مِن سقوطها فتتألَّه. فنحن لسنا بأرقام بل مخلوقون على صورة خالقنا وشبهه، والصورة في اللغة اليونانيَّة أيقونة، أيقونة فيها نسمة حياة إلهيَّة، أتت مِن الله وتعود إليه. لهذا نقول إنَّ وطننا الأوَّل هو السماء. ولكي نستحقَّ مواطنيَّتنا السماويَّة علينا أن نعمل عليها منذ الآن، وما حياتنا هنا إلَّا فرصة قداسة.

عمق عيد الميلاد خلاصيٌّ وقياميٌّ ويمرُّ بالصليب حتمًا. فالمولود الإلهيُّ هو الحمل المذبوح لخلاصنا. ولا يتعجَّبنَّ أحد إن قلنا إنَّنا مدعوُّون لكي نُذبَحَ على شاكلته لنقوم مِن قبر خطايانا ميلاديًّا. وإلَّا فنبقى قابعين في مذود قبر خطايانا الحالكة والبهيميَّة.

أن نُذبَح أي أن نموت عن ذواتنا ونتواضع لنقوم. فليس صدفة على الإطلاق أن تكون الكنيسة رتَّبت أن توضع أيقونة الميلاد على المذبح أو فوقه حيث يحضِّر الكاهن الذبيحة في السحر، أي القرابين الَّتي ستصبح القدسات في القدَّاس الإلهيِّ بفعل الروح القدس.

وجود الأيقونة هناك لهو إعلان ودعوة. إعلان بأنَّ الَّذي وُلد هو الحمل الفصحيُّ القياميُّ، الَّذي ذُبح من أجل خلاصنا وصُلب ليفديَنا. ودعوة لنا جميعًا، بأنَّ تناوُلَنا القدسات يحيينا إن متنا عن ذواتنا، ووُلد المسيح فينا.

فعيد الميلاد نتهيَّأ له أربعين يومًا لا لكي ينتهي في يوم العيد، ولا حتَّى في يوم وداع العيد في الحادي والثلاثين من شهر كانون الأوَّل، بل ليمتدَّ إلى ما لا نهاية إن تُبنا ووُلدنا ولادة جديدة بالربِّ يسوع المسيح.

والولادة الجديدة هي الولادة بالماء والروح. بدموع خطايانا وسكنى الروح القدس فينا. ودون ذلك موت ما بعده موت.

ما أرهب اللحظة الَّتي يحمل الكاهن فيها الجزء الَّذي اقتطعه من القربان ليكون الحمل، يحمله باليد اليسرى بالمقلوب، وبيده اليمنى الحربة ويذبحه بشكل صليب، مِن غير أن يفصل أجزاءه، وهو يقول: "يُذبَح حمل الله الرافع خطيئة العالم، لأجل حياة العالم."

غريب وعجيب كيف أنَّ الخالق نزل مِن السموات وارتضى بملء إرادته أن يُذبَح من الإنسان الَّذي هو خلقَهُ وجبلَهُ بيدَيْهِ ونفخ فيه نسمة حياة.

لا يحاولنَّ أحدٌ أن يفسِّر ذلك خارج المحبَّة الإلهيَّة (La plenitude de l'amour) لأنَّه لن يفهم شيئًا. لهذا نقول: «نعشق الكلمة المتجسِّد» (Logos)، ولا نقول: «الكلمة المتجسِّدة»، والفرق بين العبارتين شاسع، لأنَّ الكلمة في العبارة الأولى أتت في المذكَّر وهي الربُّ يسوع المسيح. وإن لم نحيَ الكلمة لا نستطيع أن نطبِّق كلامه.

هناك قطعة ميلاديَّة تسمَّى القنداق، نقول فيها: «اليومَ العذراء تأتي إلى المغارة لتَلِدَ الكلمة، الَّذي قبل الدهور، ولادة لا تُفسَّر ولا يُنطَق بها. فافرحي أيَّتها المسكونة إذا سمعت، ومجِّدي مع الملائكة والرعاة، الظاهر بمشيئته طفلًا جديدًا، وهو إلهنا قبلَ الدهور».

إنَّه منطق المحبَّة الإلهيَّة اللامحدودة. نعم اِفرحي أيَّتها المسكونة، لأنَّ المسكونة كلَّها كانت تنتظر المخلِّص، لا شعبًا محدَّدًا. كانت تنتظر مخلِّصًا يعطيها ديمومة الحياة ويخلِّصها من براثن الموت. فالشعوب كلُّها تكره الموت وتريد الحياة. فمثلًا نجد العبارة[2] التالية على المدافن المصريَّة قديمًا: «Ô vivants sur terre, qui aimez la vie et haïssez le trépas »، بما معناه: «أيُّها الأحياء على الأرض الَّذين يحبُّون الحياة ويكرهون الموت». وكانوا يناشدون الآلهة في ذلك. حتَّى إنَّهم كانوا يدفنون موتاهم في وضعيَّة الجنين. للإشارة إلى أنَّ الموت «عودة إلى الرحم»، وولادة جديدة، كولادة الشمس بعد غيابها (موتها)، ونهر النيل بعد جفافه. موتاهم يموتون ويولدون في حضن الآلهة، بين النجوم في السماء يتلألأون. والأكثر دلالةً هو الصليب المصريُّ (Ankh) ويرمز إلى الهبة الإلهيَّة للحياة الأبديَّة. ويُعرَف أيضًا باسم «صليب الحياة»، الهديَّة النهائيَّة للحياة، فهي تمثِّل الوجود على الأرض والحياة بعد الموت. استخدمها الفرعون لتمثيل وتأسيس قوَّته. كان المصريُّون يرتدونها كتميمة وقائيَّة. والهدف النهائيُّ أن يصبح المرء (Ankh) فيقولون: «Tu t’es libéré, parce que tu es devenu un ankh»، بمعنى: لقد تحرَّرتَ لأنَّك أصبحتَ خالدًا وإلهًا.

كما أنَّ التاريخ البشريَّ يشهد لوجود نبوءات في مجيء المخلِّص. وعلى سبيل المثال لا الحصر، الشاعر الرومانيُّ فرجيل (Virgil) (70 – 19 قبل المسيح) الَّذي كتب نصًّا قبل أربعين عامًا من المسيح ذكر فيه أنَّه يتخيَّل عصرًا ذهبيًّا يحقِّقه ولادة صبيٍّ، وجملته الشهيرة: «magnum Iovis incrementum» تعني النموَّ الكبير للإله جوبيتر إله السموات.

لا يتعثَّرنَّ أحد من هذا الكلام، بالعكس تمامًا، هو تأكيد على توق الإنسان إلى الخلود ومعرفة خالقه. وقد أتى المسيح ليجذب الجميع إليه ويعطينا الحياة الأبديَّة. وقال لنا إنَّ الموت الحقيقيَّ هو عدم التوبة، والحياة هي يسوع مقيمنا ومحيينا (يوحنَّا 8 : 24).

لقد أتى مخلِّصنا ولا إله غيره، فهل نبحث بعد عمَّن يليه أو غيره!؟ وهو الَّذي قال عندما سألوه مَن أنت: «أنا من البدء ما أكلِّمُكم أيضًا به» (يوحنَّا 8 : 25).

إلى الربِّ نطلب.

[1]. نسبة إلى السيِّد الربِّ يسوع المسيح.

[2]. Le monde de la bible - Par Christian Cannuyer, Université catholique de Lille. Président de la Société Belge d’Études Orientales.