جمع رحيل والدة قائد الجيش اللبناني العماد المغوار جوزاف عون، هدى إبراهيم مخلوطة، اللبنانيين من مُختلف المناطق والطوائف والمذاهب والانتماءات السياسية، حتى المُتباينة في ما بينها، في صورةٍ مُصغّرة عن نموذج لبنان، المُرتكز على العيش الوطني الطبيعي.

رحلت هدى مخلوطة، قبل أقل من شهر على إتمام عامها الـ89 (مواليد: 4 شباط/فبراير 1935).

وفي مثل تلك الأيام، التي كانت تعيش فيها مخاضاً قبل ولادة جوزاف عون (10 كانون الثاني/يناير 1964) في سن الفيل - قضاء المتن.

لكن الانتماء إلى بلدة العيشية - قضاء جزين، التي تُشكّل نقطةُ تلاقٍ في علاقاتها المُتمادية وامتداداتها الجغرافية مع صيدا في مُحافظة الجنوب، ومُحافظات: النبطية، البقاع والجبل.

من هذه المُثُل والقيم، أرضعت هدى ابنها، حُبَّ لبنان والذود عنه، والعمل من أجل حمايته والتفاني لأجله.

تماماً كما كانت عائلة خليل يوسف عون، تغرس في ابنها، وأفراد العائلة، دماثة الخلق، والرجولة والفراسة، ومُساعدة الآخرين والوفاء والفداء.

أبصر النور في أسرة تحمل الكثير من الأسماء المُباركة:

- الوالد خليل: نسبة إلى خليل الرحمن (ع).

- الوالدة هدى: على طريق الهداية والعمل الصالح.

- جدّه لوالدته إبراهيم، نسبة إلى "أبي الأنبياء" (ع).

- أما جدّه لوالده يوسف: فهو نسبة إلى نبي الله (ع)، والمُرادف لاسم جوزاف، الذي اختير له اسم "جوزاف".

- وعائلة عون: لتقديم العون والمُساعدة لكل مُحتاج.

وهو ما سار عليه جوزاف وشقيقه رفيق وشقيقتاهما دوللي وداني.

تجسّد ذلك في العائلة بشكل عملائي في عز الأحداث الأليمة، بعد ما جرى من فتنةٍ في بلدة العيشية في العام 1976، واستغلال البعض ذلك في مُحاولاتٍ للانشقاق عن الجيش اللبناني، والانضمام إلى "جيش لبنان الحر" بإمرة الرائد سعد حداد، الذي أنشأه العدو الإسرائيلي.

رفض الوالد خليل ذلك، وأكد التمسّك بالمُؤسّسة العسكرية التي ينتمي إليها، واستمر فيها، بل دفع بابنه البِكر جوزاف - الذي لم يكن قد أتم عامه الـ19 - ليتطوّع في العام 1983 بالكلية الحربية، التي تخرّج منها برتبة مُلازم، بتاريخ 6 أيار/مايو 1985، وكانت الدورة الأخيرة قبل توقّفها، إلى حين إعادة افتتاح الكلية الحربية، بعد وقف الحرب العبثية في لبنان.

هكذا ربّى خليل وهدى ابنهما جوزاف، وهو ما استمرَّ به مع زوجته نعمت نعمة والعائلة، وعمل على تكريسها في مُختلف المهام التي أُوكلت إليه، والمناصب والمراكز التي تبوأها، وصولاً إلى اختياره لقيادة الجيش، بتاريخ 8 آذار/مارس 2017.

أمضى العماد جوزاف عون في المُؤسّسة العسكرية 41 عاماً مع 5 قادة، هم: إبراهيم طنوس، ميشال عون، إميل لحود، ميشال سليمان وجان قهوجي، قبل أنْ يُصبح القائد الـ14 للجيش، فكان دائماً في الميدان بين العسكريين، وما زال يحرص على ذلك.

قاد المُؤسّسة العسكرية في مرحلة من الأصعب التي مرَّ بها لبنان، مع تنامي دور عملاء العدو الإسرائيلي، وبروز خلايا الإرهاب، اللذين واجههما في الجنوب، وقاد معارك "فجر الجرود" ودحر المجموعات الإرهابية، على جبهة عرسال، التي أتى منها لقيادة الجيش.

تجلّى ذلك مع تفاقم الانقسام السياسي، وتغليب العديد من المسؤولين مصالحهم الخاصة على المصلحة الوطنية، والقصف والقنص على الجيش وقائده، ونصب الأفخاخ، وصولاً إلى حرمانهم من اللحم في وجبات الطعام، فيما هم يُواجهون باللحم الحي.

مع ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، ومن ثم زلزال انفجار بيروت في 4 آب/أغسطس 2020، وما رافق كل ذلك، نجح العماد عون في الحفاظ على إحدى أبرز المُؤسّسات الأخيرة المُحصّنة في وجه المُؤامرات من الانهيار.

ورفض المس بالأمن، مع عدم التساهل أو التهاون مع مَنْ يعبث بالاستقرار، وأخرج المُؤسّسة العسكرية من التجاذب السياسي، بتفكيك صواعق الألغام، وترسيخ عقيدة الجيش بأنّ الولاء أولاً وأخيراً هو للوطن، لأنّ لبنان هو نموذج الرسالة، وهو ما لَقِيَ إجماعاً وطنياً، وحرصاً ودعماً عربياً ودولياً.

في ظل البحث عن ضمان استمرارية قيادة المُؤسّسة العسكرية، كان البعض يُطلِق سهامه الحاقدة، ضدَّ قائد الجيش، قبل تصديق مجلس النوّاب على اقتراح قانون، مدّد بمُوجبه ولاية قائد الجيش وقادة الأجهزة الأمنية، برفع سن التقاعد لرتبة عماد ولواء عاماً إضافياً، في الجلسة التي عقدها بتاريخ 15 كانون الأوّل/ديسمبر 2023، بأغلبية 85 صوتاً.

ترقد هدى مخلوطة عون في رحلتها الأخيرة في بلدة العيشية، الشامخة من قِمم الجنوب، الأرض التي باركها السيد المسيح (ع) يوم زارها مع والدته مُبشّراً برسالته، وهي تشهد تصعيد العدوان الإسرائيلي المُتمادي ضد الجنوب اللبناني، وفوق أرض فلسطين التي كانت تُمنّي النفس بأنْ تزورها مُحرّرة للحج في بيت لحم والقدس، بين عيدَيْ الميلاد الغربي والشرقي، حيث يسير أبناء فلسطين على درب الجلجلة التي سار عليها السيد المسيح (ع).